الرئيسية / home slide / واحة الهجين… سير ذاتية ومذكرات وكباب تركي

واحة الهجين… سير ذاتية ومذكرات وكباب تركي

 محمد تركي الربيعو 
القدس العربي
04072020

في عام 2007، كان عدد من المؤرخين العرب، من أمثال سليم تماري ووجيه كوثراني، قد أصدورا كتابا جماعيا بعنوان «دراسات في التاريخ الاجتماعي لبلاد الشام». وقد حاول المؤرخون في هذا الكتاب إعادة الاعتبار للسير الذاتية كمصدر أساسي، وليس ثانويا، في قراءة تاريخ المنطقة في المئة سنة الأخيرة. يومها، قدم المؤرخ الفلسطيني طريف الخالدي شهادة مهمة، إذ اعترف بأن المؤرخين، وقعوا في خطأ عندما أهملوا السير الذاتية بعيد الحرب العالمية الأولى، وهو ما يرده لهيمنة مدارس تاريخية، مثل مدرسة الحوليات، التي أولت اهتماما أكبر بتاريخ العوام، على حساب تاريخ الأعيان والجنرالات وسيرهم الذاتية. وبعد سنة تقريبا من هذه الدعوات، التي لم تلق الاهتمام الكافي من قبل المؤرخين وتلامذتهم، كانت الصدفة تقود أحد الشباب من مدينة طنطا المصرية (محمد عبد العزيز الهجين) للانتساب إلى قسم التاريخ في جامعة طنطا؛ ربما ما دفع يومها هذا الشاب للدخول، هو الشغف بالقصص والحكايا. وسيمضي هذا الشاب سنواته الأربع في الجامعة، متعرفا على تاريخ الأمويين والعباسيين والمماليك لاحقا، الذين حكموا مصر لسنوات طوال، كما سيتعرف على تواريخ سياسية كثيرة. وعلى الرغم من ثقل ظل أساتذته أحيانا، وطريقتهم التقليدية في التدريس، سيتمكن هذا الشاب من الحصول على المرتبة الثانية في دفعته، ومع ذلك، سيعترف أحيانا بأنه لم يستمتع كثيرا بقراءة التاريخ، فكل ما تعلمه بقي محصورا بتواريخ سياسية أو اجتماعية قصيرة. بعد تخرجه بسنوات قليلة، سيتاح له الانتقال إلى مدينة خليجية، وهناك سيعكف هذا الشاب على قراءة أدوارد سعيد والاستشراق؛ لكن بعد ذلك، سيكتشف، أنه على الرغم من قوة حجة ما قدمه سعيد، إلا أن ذلك لم يحل دون شغف الهجين، وولعه برحلات وملاحظات المستشرقين عن المدن والعادات العربية؛ في هذه الأثناء أيضا، سيتعمق اهتمامه بالسير الذاتية، وهي السير التي بدت له آنذاك مهجورة، أو كانت كتبا يلجأ إليها القراء للمتعة، ليس إلا، بينما سيراها، مع تعرفه على سيرة تلو الأخرى، كمصدر مهم لكتابة التاريخ، الذي درسه وتفوق فيه، بدون أن يتمتع بزواياه الاجتماعية والثقافية كثيرا.


لن يمكث هذا الشاب طويلا في هذا البلد النفطي، ليجد نفسه مضطرا إلى الرحيل إلى مدينة أسطنبول، التي غدت ملجأ لملايين الباحثين عن الخلاص من يوميات الحرب والقتال والقمع الدائرة في مدن عربية عديدة. وهناك ستتاح له فرصة العمل في إحدى المكتبات الواقعة اليوم في حي الفاتح. وفي يومياته داخل المكتبة، أخذ يراكم من معارفه حول السير الذاتية، ومع الأيام، غدا كل ما يتمناه هذا الشاب هو العيش في واحة صغيرة، وإلى جانبها ساقية صغيرة وطبق من المشاوي من مطعم «منكل» التركي الواقع في حي الفاتح، الذي ينفق فيه جل راتبه الشهري، وإلى جانبه الآلاف من السير الذاتية والمذكرات. ورغم أن هذا الحلم، قد لا يناله المرء إلا في ليالي ألف ليلة وليلة، مع ذلك نجده قد استطاع أن يحقق جزءا منها في المكتبة التي يعمل فيها. فالمتجول بين رفوفها، لا بد وأن يستوقفه القسم الخاص بالسير الذاتية، والذي رعاه الهجين بعناية، وغالبا ما يرعى الزائرين له بالوقوف إلى جانبهم واصطحابهم في جولة داخل عوالمها، من خلال سرده الممتع لما تحتويه من طرائف، وأسرار، ومواقف طريفة عن حياة كاتبيها.
وبموازاة عمله في المكتبة، أخذ هذا الشاب، ينشر في عدد من المواقع مقالات حول السير الذاتية؛ لتغدو هذه المقالات، في السنوات الأخيرة، محط اهتمام عدد جيد من القراء، ولن نبالغ هنا إن قلنا إنه استطاع من خلالها إعادة الاعتبار للسير الذاتية، ولأهمية قراءتها والاطلاع عليها، كما كان لمقالاته دور في إثارة الاهتمام لدى قسم كبير من المثقفين والشباب العرب المقيمين في مدينة أسطنبول بالسير والمذكرات، وقد سمح هذا التراكم في المقالات والقراءات لهذا الباحث بإصدار أول كتبه بعنوان «مودة الغرباء.. حكايات من السير الذاتية والمذكرات»، جسور للترجمة والنشر. ومما يذكر في بداية مقدمته، أن السير والمذكرات تجعل التاريخ أكثر حياة، والأهم أنها تجعله يتنفس ويصبح حاضرا في الوعي بقصص حياة الناس.
ستنطلق رحلته في مدينة السير مع بدايات القرن العشرين، إذ يرى (ابن طنطا)، أن ما يميز هذا القرن هو أنه قرن الكتابة والسير الذاتية بامتياز. سيتوقف في أولى محطاته عند ذكريات ستيفان تسفايج عن «عالم الأمس» وهي الذكريات، التي تصف حياة الكاتب قبل الحرب العالمية الأولى. ففي تلك الفترة، كانت الحياة تسير ببطء، والناس يمشون ببطء أيضا، ويتكلمون كلاما منتظم اللهجة، لكن كل هذا تغير في 29 حزيران/يونيو 1914، عندما أطلقت في سراييفو الرصاصة التي حطمت في ثانية واحدة عالم الأمان والعقل الخلاق. ورغم غنى الصور التي صاحبت عالم الأمس، لكن سيلاحظ باحثنا الهجين، أن ثمة عالم لم يتمكن من رصده، في إشارة للفضاء العثماني في تلك الفترة، ولذلك سيعمل على إكمال صورة الأحداث والتحولات في تلك الفترة، من خلال العكوف على قراءة ودراسة سير ومذكرات لأشخاص عايشوا تلك الفترة في المدن العثمانية. قد يذكرنا هذا المنهج بأسلوب المؤرخ البريطاني يوجين روغان في سياق قراءته لتاريخ الحرب العالمية الأولى، الذي توصل إلى أن أي كتابة لهذه الفترة لا يمكن أن تجري بدون الإلمام بسيرة وتجارب العثمانيين قبل وأثناء الحرب، وهو ما قام به فعلا عبر قراءة مذكرات الجنود العثمانيين، كما في مذكرات الجندي العثماني إحسان الترجمان 1915/1916، الصادرة بعنوان «عام الجراد» تحقيق سليم تماري. ففي هذه السيرة، التي يعود إليها كذلك الهجين، سيعترف لنا هذا الجندي بأنه بقي يلعب بشواربه خلال هذه الفترة، بعد أن استعان بعلاقاته الاجتماعية للتهرب من الخدمة على جبهة السويس، التي هزم فيها جمال باشا لاحقا.

لن يقف الهجين عند إسطنبول، بل سيذهب إلى مدينة أنقرة من خلال مذكرات عالمة التصوف الإسلامي آنا ماري شميل، التي زارت المدينة وعاشت فيها عام 1952، قبل أن تقوم بعد ذلك بسنتين بالتدريس في كلية الإلهيات في أنقرة.

وبموازاة يوميات الحرب، لا ينسى أن يأتي على ذكر بعض التفصيلات الصغيرة عن أهالي القدس، فقد بدأ سكان المدن باقتناء ساعات الجيب لتحديد بدايات ساعات العمل ونهايتها. واحتلت المقاهي مقام المنازل كأماكن تجمع وزيارة للرجال. وقد توفي هذا الجندي عام 1917 وهو في الرابعة والعشرين من عمره، بدون أن يعلم أهله بوجود اليوميات، وكأن قدر اليوميات أن تتماهى مع قدر آلاف الجنود العثمانيين المنسيين. ويرجح تماري (المحقق) أن هذه اليوميات قد تركت في منزل أحد المقادسة، وقد بقيت طي الكتمان إلى فترة ما بعد عام 1967 بعد احتلال إسرائيل للقسم الشرقي من المدينة، عندما ظهرت في أرشيف الجامعة العبرية في قسم «الأملاك العربية المتروكة».

إسطنبول وشعار «يوك»

وكما ذكرنا سابقا، فإن عيش المؤلف في إسطنبول قد دفعه لاكتشاف المدينة وطعامها، ولغتها، وطبيعة أهلها، والعبارات التي يستخدمونها، وربما أهمها عبارة «يوك» (أي لا أو لا يوجد) التي تعد ربما أولى العبارات التي يكتشفها أي زائر للمدينة، أو قادم للعيش فيها. بيد أن الهجين لن يقتصر في معرفته بهذه المدينة على السير في شارع الفاتح حيث يقطن، أو زيارة مولاتها، وشوارعها وأسواقها الجديدة، والنظيفة، مقارنة بشـــوارع مدن مثل القاهرة، أو دمشق في أيامنا هذه، بل نراه يسافر بنا نحو عالم السير، عله يعثر على صور أكثر وضوحا عن ذكريات هذه المدينة، وبالأخص بعد أن غدت أسوار المدينة ضعيفة مع بدايات القرن العشرين. وسنعثر هنا، في رحلته هذه، على شيء قريب من الذكريات التي دونها لنا أورهان باموق في روايته الشيقة «إسطنبول»، وعن شعور الحزن وصوره الذي طوره ألم الهدم والضياع والفقر، وهي الصور التي لا يشعر بها، كما يرى باموق، أو لا يكتشفها بسهولة من هو قادم من خارج المدينة.
ستكون أولى خطواته في عالم الأمس الإسطنبولي، من خلال رحلات جورجي زيدان في عام 1909 إلى الأستانة، التي عكف فيها على تصوير أجزاء المدينة بشقيها الأوروبي والآسيوي، كما أثارت اهتمامه متنزهات المدينة، بينما أبدى تعجبا من شوارع المدينة ودروبها، التي تكاد تكون خرابا لتقلقل بلاطها وقلة العناية بها.
ولن يقف الهجين عند إسطنبول، بل سيذهب إلى مدينة أنقرة من خلال مذكرات عالمة التصوف الإسلامي آنا ماري شميل، التي زارت المدينة وعاشت فيها عام 1952، قبل أن تقوم بعد ذلك بسنتين بالتدريس في كلية الإلهيات في أنقرة، وهناك وصفت لنا أجواء الدراسة في الكلية، وكيف كانت ردات فعل الطلاب عند تدريسهم الهندوسية، إذ رفضوا الأديان الهندية بآلهتها، مع ذلك، تسجل مفاجأتها من إعجاب الشباب التركي بمارتن لوثر، رغم محاولاتها المتكررة التوضيح أنه لم يكن محبا للإسلام. كما تصف لنا كيف كانت الحالة الاقتصادية سيئة في أنقرة في تلك الفترة، فلم تكن توجد قهوة، وكانت آنا ماري تذهب إلى المحل الصغير وتسأل البائع عن اللبن، فيقول البائع اللطيف بأسف: لبن يوك/أي لا يوجد لبن، وما أكثر «اليوكات» اليوم في حياة الأتراك، وبالأخص عند مراجعة إحدى مؤسساتهم، ومعرفتهم أنك أجنبي (يابانجي).

سير الهجين

لن يكتفي الهجين، بقراءة السير الذاتية، ففي الفصل الرابع مثلا، نراه يعكف على كتابة سير ذاتية لبعض المترجمين، ممن تولع بترجماتهم، وهنا سنجد أمامنا باحثا يتمرن على فن كتابة السير الذاتية، وليس قراءتها وحسب؛ صحيح أنه سينسى أحيانا بعض الوقائع هنا وهناك، لكن ربما هذا النسيان هو من شيم السير الذاتية، التي تمتاز ذاكرتها بكونها تبقى ذاكرة ضبابية، وعرضة للخطأ، كما يذكر طريف الخالدي. من بين من سيكتب لهم سيرة ذاتية، المترجم المصري طلعت الشايب الذي رحل قبل سنوات قليلة عن عالمنا، تاركا إرثا كبيرا من الكتب المترجمة. ولد طلعت الشايب في عام 1942 في قرية البتانون في محافظة المنوفية، وتفتحت عيناه على مكتبة والده أحمد أفندي، الذي عمل في التدريس في عشرينيات القرن الماضي. وقد سار الشايب على خطى والده، فالتحق بمهنة تعليم اللغة الإنكليزية أيضا، وربما ما جعله يلتحق بذلك، ظروف عائلته المتواضعة، أو لأن مهنة التعليم كانت ما تزال من المهن الراقية، كما تبين الفرنسية اليزابيث لونغيس في سياق حديثها عن تاريخ المهن في المشرق العربي، قبل أن تتقدم مهن مثل الهندسة والطب، ولاحقا الاقتصاد، بينما غدت مهنة التعليم مرتبطة بحياة «التعتير» والفقر، وربما هذا ما سيدركه الشايب، الذي بعد سنوات من تدريسه سينتقل إلى الخليج للتدريس، إذ بدت مدن النفط آنذاك هي المكان الذي يحلم به أي معلم يرغب بالحفاظ على كرامته قبل مهنته. وبعيدا عن جانب التعليم والمهن، سيعرفنا الهجين على يوميات المترجم في الجيش المصري، فبحكم دراسته في قسم اللغات، جرى استدعاؤه في عام 1969، أثناء خدمته العسكرية، لدراسة اللغة الروسية دراسة مكثفة، وللتعامل مع الخبراء والمستشارين السوفييت الذين تدفقوا على مصر، ومما يذكره الشايب في إحدى شهاداته عن تلك الفترة، في سياق حديثه عن ضرورة وجود ثقافة للمترجم، تتيح له إتقان الترجمة، وفهم سياق الحديث ومعنى النص، حادثة تتعلق بترجمته لرئيس هيئة العمليات آنذاك سعد الشاذلي وكبير مستشاري إدارة المدرعات الروسي، ففي حديث الجنرال الروسي وردت عبارات نقلها إلى الشاذلي على النحو «وكأنه يبيع الماء في حارة السقايين». يومها لم يقاطعه الشاذلي، ولكنه بعد انتهاء اللقاء سأله: «إي يا حضرة الضابط؟ هما الروس عندهم حارة سقايين برضه»، فشرح له أن الجنرال الروسي قال ما مفاده: «لماذ تذهب إلى تولا ومعك اموفارك» (وهو وعاء معدني يستخدم لتحضير الشاي) وأوضح أن تولا مدينة مشهورة بصناعة الساموفار.
سيقرر باحثنا أن ينهي كتابه بمقالة حول الطفولة في السير الذاتية، إذ يرى أن مرحلة الطفولة غالبا ما جرى تضخيمها في سير القرن العشرين، وهذا ما يرده إلى التأثر بأفكار فرويد والتحليل النفسي، التي تعتقد أن الشخص هو نتاج الطفولة، ولعله باختياره أن يعرض هذه الفكرة في نهاية الكتاب، أراد أن يتبع الأسلوب ذاته الذي تسلكه عادة بعض السير، التي تتوقف عند لحظة ما لتجعلنا حائرين في أسرار العمر ومفارقاته، وأيضا في مفاجآته وحيله، وربما أيضا لدفعنا للبحث أكثر في عالم الذوات والأنفس والتجارب اليومية، وهذا ما فعله المؤلف، والذي من خلال حديثه الأخير، زاد من شوقنا، وحرقة انتظارنا لمؤلفه الآخر وحفرياته في عالم الأمس والذكريات وسيرنا المقبلة.

٭ كاتب من سوريا