- مروان نجّار
- 9 حزيران 2020 | 04:00
- النهار

(1)
أسبوع ما بعد الهزيمة أسبوع خيبات الأمل بل خيبة الآمال، هو الأسبوع الحالي الممتدّ ما بين السادس والثاني عشر من شهر حزيران.
على طرفيه الأوّل والأخير ظلامٌ أخذ منّا كبيرين، أصاب حرم الجامعة الأميركيّة في بيروت فأفرغ هامة “الكولدج هول” (مبنى الساعة) من رمزين فاعلين في ضمير أجيال متلاحقة.
جسيمةٌ خَسارتُنا في أُسبوع النكسة إذ خسرنا على طرفه الأوّل الدكتور خليل حاوي، الشاعر الناقد والمربّي؛ وعلى طرفه الأخير الدكتور أنطون غطّاس كرم، الباحث المدرّس وسيّد الكلمة.
كانا ثنائيًّا متناقضًا، متلازمًا، متكاملًا، صورتهما معًا تعلق في الذاكرة وتقيم في الوجدان.
في كلّ إطلالة لنا على مكتبهما المشترك القائم عند طرف الرواق يسار الداخل في الطابق الرابع من “مبنى الساعة” كنّا نغنم مرّتين: بالشاعر الصخريّ المكتنز أصالةً واشتياقًا إلى جذور الحياة ونبضها، يقابله الباحث الأنيق الممتلئ أنغامًا وامتلاكًا لحقائق ورموز.

خليل حاوي الذي روّض العبارة بسوطه ودجّنها بصوته نعجز عن إخضاع أوصافه لعبارة. هو شاعر الانبعاث القوميّ، المتفائل بعودة أمّته إلى وثبتها الأولى وتوهّج مجدها، المرتقب تدحرجَ الصخر عن قبر إلعازر العربيّ ونهوضَ أمّةٍ تستعيد مواقفَ سلفت في ثنايا تاريخها العريق، شاعر الرحلة الثامنة يقوم بها سندباد العربيّ بعد طول سُباتٍ مشرِقيّ، صدره مصهرٌ وخياله مولّدٌ وسرّ إبداعه “صهرٌ وتوليد”.
عرفناه كما كان الكثير من شعره، عمقًا بلا تكلّف وعفويّة بلا تساهل. وآخر همٍّ عنده التهذيب والزينة من الخارج والرونق اللمّاع.
كانت صراحته تثير دهشة القويّ وتسيل دمعة الضعيف. لا يرحم عيبًا ولا تحظى منه مراعاةُ المشاعر بعُذرٍ أو ملاذ. فالذي بصدق ومحبّة مدّ أضلعه إلى أطفال أترابه جسرًا وطيدًا يقطعون عليه درب التجدّد والنماء، دعا الأشياء بأسمائها فما منعته جماليّة الشعر من القول في قدامى شرقنا إنّ “طفلهم يولدُ خفّاشًا عجوز”، أو من قوله في بعضنا:
“نحن من بيروتَ مأساةً وُلِدنا
بـِـوُجـُــوهٍ وعـُــقـُــولٍ مُسـتعاره
تولَدُ الفكرةُ في السـُّـوقِ بغيًّا
ثمّ تقضي العمرَ في لفقِ البكاره”
كان يصفع مواجهةً، يفاجئ، يذهل، يوجع ولا يكفً. أكثر من مرّة خذل أمَّه وما اقتنع بعروس.
خليل تزوّج أمَّتَه. كان زوجًا رائعًا. وزوجته عاقر. فما الذي قتل خليل؟
حين أطلق على نفسه العيار الناريّ القاتل جاء تعبيره منسجمًا مع أسلوب عيشه ونطقه.
فاجأنا. صفعنا. أذهلنا. أوجعنا ومضى.
هكذا خليل حاوي منذ عرفناه جميعًا.
في 5 حزيران 1982 دخل الجيش الصهيونيّ أرض لبنان. اكتسح الجنوب ثمّ تمدَّد شمالًا.
في اليوم التالي انتحر خليل حاوي.
لم يفاجئنا الموقف بل فظاعة الأسلوب. وإذ رجعنا من هول الصدمة زالت المفاجأة وقلنا: هذا خليل.
هل انتصر الشاعر على دنياه غَدرًا ساعةَ غادرها فمحاها من وعيه ومن ذاكرته وإن بدا هو الزائل الذي امّحى؟
هل صحّ قول القائلين إنّ انتحار خليل حاوي قصيدة أخيرة نظمها بدمائه بعدما قصّر المداد عن تزويد قلمه؟
لا.
أعرف خليل وأعرف شعره الذي كان.
شاعر الانبعاث لا يكتب شعرًا بالموت.
إنَّما الدّم الذي سال حبر أحمر شاءه خليل ليمحو به كلّ حرف من قصيدة نظمها في حياته.
أمّته، زوجته الحبيبة، تحقّق من عقمها، دان احتمالات انبعاثها، دفنها والتحق بها في تربتها.
يأس خليل حاوي من أمّته لم يتّخذ من الشعر عبارةً بل جاء اعترافًا ببطلان شعره إلى حدّ محوه بالنار والدم.
عندما سقط خليل بناره ألغيت رحلة السندباد الثامنة، وأُحكم إغلاق القبر، قبر ألعازر العربيّ، ورجعت أمّهات الأجيال في الشرق المريض يلدن خفافيش عجّزًا، وتقطّعت الأضلع التي منها أقيم للأجيال جسر وطيد، وأطفال الأتراب شاخوا كلّهم بحركة إصبع على زناد، وقرفصت بنات الفكر العربيّ لاهيات بلفق بكارتهنّ المفقودة منذ ما قبل الولادة.
شاعر الانبعاث اعترف بخيبته. ترك الميت حيث كان. لم يطالبه بالخروج إلى الحياة. بل دخل قبره وضاع في صمته المظلم.
برحيله أنكر شعره وما أضاف.
عرفنا لغير خليل حاوي من الشعراء العرب ما قد يصلح صدى لانتحاره كما في قول الماغوط: “تشبّث بموتك أيّها المغفّل.”
فأيَّ مسيح صرتَ يا خليل؟ أمسيحًا منتحرًا؟
نطقت بالانبعاث. أنهضت ألعازر محاولًا أن تطأ الموت بقهر الموت. وعندما اقترب منك اليهود لم تنتظر من يدلّهم عليك بقبلةٍ غاشّة مثلَ يوضاس كي يصلبوك وتقوم في اليوم الثالث.
لم تنتظر أو تتردّد أو تترجَّ ابتعاد الكأس بل شربتَ الموت بيدك، بقرار منك.
أبيت أن يصلبك اليهود لأنّك أدركت سلفًا أنّ موتك بلا رجاء قيامة… فـانــتـــحــــروك.
وغداة الخامس من حزيران 1982 قبل أن تكمل النكسة عامها الخامس عشر وقبل أن يرى جنديًّا صهيونيًّا في عاصمته الغالية… بحركة مفاجئة تخلو من التهذيب كسائر حركات خليل، انتحر الشاعر مطلقًا على نفسه النار، فمحا بمداده الأحمر حبر شعره الأسود ومضى وحده دونما استئذان.
Volume 0%
(2)
كنتَ تفتح باب المكنب لتدخل فترى قبالتك الدكتور خليل من دون ستر أو حياء، يواجه الباب والرواق وكلّ من يشاء.
ثمّ تكبّد نفسك عناء الدخول كي يتسنّى لك أن ترى عند الجهة المقابلة رجلًا هادئًا راكنًا إلى مكتبه منصرفًا إلى ما يعنيه، وهو يخاطب زائرًا تحسبه لفرط لياقة المضيف ذا شأن رفيع، وهو واحد من الطلّاب الساعين إلى نصح أو توجيه
لكنّ صاحب المكتب المنزوي بالداخل يحرّك شفتيه متأنّيًا، بصوت متّزن يكاد لا يتجاوز مداه أذني زائره كي لا يزعج شريكه في القاعة أو ضيوف شريكه.
إنسان مرهف. وجه جاهز للتبسّم. عينان مشرقتان على كلّ ما تنظران إليه فإن جَمُلَ استمتعتا وإلّا أسبغتا عليه من نورهما جمالًا: أنطون غطّاس كرم. كنّا لا نداوم على صفّه بل نُدمِنُ صفَّه.
علّمنا التعاطي بالكلمة مضمونًا وقدسيّة إيحاء وروعة أداء.
كلّ شيْ حوله كان جميلًا: من أريج عطره إلى صفاء أناقته ووضوح فكره، من نفاذ رؤيته إلى بُعدِ رؤياه، من رقّة نطقه إلى حدّة لُطفه، من لفظه المترنّم إلى تحليله المتوغّل في عوالم الشعراء.
أنطون غطّاس كرم: حسٌّ مُرهَف وأناقةٌ متألّقة. نكرمه لو نمدّ اليد إلى زاده متذوّقين مستزيدين لا يُثنينا علمنا بأنّ محاولة التعرّف إلى طويّته الأدبيّة مجازفةٌ شاقّة بقَدْرِ ما هي شيّقة.
لأنّ أنطون صعب ولأنّه حقيقيّ اختار التهذيب أداةً تُلطِّفُ صعوبةَ إصرارِه على الحقّ مثلما فعل بطله في “كتاب عبد الله” بنبرات صوته التي “تترنّح الأهواء فيها والفِكَر، مثقلةً بالخيبة والمرارة، ملطّفةً باللامبالاة، حينًا بعد حين.”
ألتلطيف. وهل كان ثمّة ألطف من أنطون وأكثر منه احتمالًا؟ لولا القناع لصار مجلسه أبشعَ من تأنيب الضمير، وكم حلا للجميع مجلسه ولكم كان بيننا متقنّعًا رأفةً بنا لا مقتنعًا!
أخطئ بل أجدّف لو أدّعي أنّي قادر أن ألقي نورًا يضيء عالم أنطون موازيًا حقّه بالإضاءة.
عرفنا “زردشت” المرسل من عبقريّة نيتشه. وعرفنا “النبيّ” الذي اصطفاه جبران.
لكنّ عبد الله هو صاحب المعاناة وهو صاحب الرؤيا: “فأنا الشارب والساقي، وأنا الخمرة والنشوة، وأنا السامر، والمعاطي، والنديم.”
معاناة عبد الله في ثنائيّة تشمل الشرق والغرب، والأصل والظلّ، والأمس والغد، والجوهر والعرَض، والإنسان وتوأمه. ولكن لا بدّ من أن ينتهي الفاجع ويتوحّد الإنسان فيتمَّ اللقاء:
“والتقى عقربا ساعتي، فتعادل الصوت وصاحبه، وتساوى الضمير ووعاء الكَلِم.”
اسألوا مالارميه وسائر المجانين هل ثمّةَ سعادةٌ أكبر من التي تساوي ضمير الرائي ووعاء اللغة؟
قَهْرُ الموت يكون بالكلمة. ثمّ تأتي المعجزة لتنتقل “الكلمة” إلى فعل:
“ألكلمات الكلمات التي تتحقّق بها القيامة.
“حيث “تعذَّرَ “الفعل” فلتَسْعَد “الكلمة”.
“في البدء كان “الكلمة”. ثمَّ تجسَّد “الكلمةُ” فِعلًا، فكان التاريخ.”
أدبٌ لا يطربنا إلقاؤه ولا تقشعرّ له الأبدان بل يُقرأ بالعين والقلب والعقل والخيال.
“وفيمَ تجعل، عبدَ الله، من ليلِ مأساتك أسمارًا لأهل الفانية؟ ما الذي يسلم من جوهرك، إذا انفتح القفص، وأفلت منه الطائر الأزرق؟
“لكم جُزتَ من العمر توقظ أحلامَك النائمة، تصطاد كلَّ فكرٍ بتول، ثمَّ تبيع أحلامَك في الدروب، تذرّي في الرياح عرائس أفكارك، فتوزّعت في الضمائر، وتبدّدت أجزاؤك في الجهات الأربع.”
عبد الله هو الرؤية وصاحبها الذي بعمق القدر مأساته، واكتمال العبارة عزاؤه، فيبلغ النشوة إذ يصيح: “ألا قُلْها. إنَّما خُلِقْتَ أنتَ لتقول.”
“وإنَّ في روعة القول ما يردّ الكفر صلاةً، ويزلزل المقابر المحيطة بك، في يقظة الحرّيّة الآتية من الأعماق.”
أنطون غطّاس كرم سهر الليالي الطويلة محترمًا كلّ خاطرة تساوت مع قائلها وها نحن ندير ظهورنا لكتب تركناها تواجه الجدران.
لنتذكّر موقف عبد الله من نفائس الحكمة التي “أدرك أنّ ما لم يتجسّد منها قد مات، وما لم يتحوّل إلى “فعل” قد تساوى فيه وجود وعدم.”
أكره أن تدير كلمات أنطون غطّاس كرم ظهرها للزمان مرغمةً. فلتسعد كلمة أنطون الذي هو النُسغ من كلّ نبتةٍ أدّعي غَرْسَها بيدي والسهر على نمائها. إنّه الشرف الكبير الذي أشمخ إذ أقول: “لقد عاصرت أنطون غطّاس كرم.” فكيف وقد منّت عليّ عنايةٌ كبرى بشرف القول: “بل تتلمذت على أنطون غطّاس كرم.”؟
في غرّة كلّ ربيع، في أزهار نوّار وفي كلّ وعد بتفتّح برعمٍ من جمال، يحضر أنطون يذكّرني بقوله: “في أعماق كلّ كاتب قارئ داخليّ.”
وكان هو ذلك القارئ الذي ما برح يسألنا حيالَ كلّ عبارة نفرج عنها: “أين الإضافة؟”.
وعند غياب قارئنا الداخليّ هذا كم خلت لنا الساحة وكم صارت الكتابة مستباحة!
غاب مثلما كان حاضرًا بيننا وفينا. أمضى عشرة أيّام في غيبوبة تسبق الرحيل يستأذن محبّيه ومريديه، علّنا نعتاد كي لا يغادرنا غدرًا.
وفي الثاني عشر من شهر حزيران 1979 تلقّيت الخبر: توفّي صاحب عبد الله. انتقل من الغيبوبة إلى الغياب. وكانت الدموع قد شقّت دربها على الخدود بهدوء طوال عشرة أيّام. ما أرقَّ البكاء على إنسان بمثل هذه الرقّة!
في ختام هذا الأسبوع يرتفع صوت عبد الله مجدَّدًا ليقول: “كلمةً كنت، وكلمةً أعود.”
ما تمنّاه أنطون في عبد الله هو ما عرفناه نحن في أنطون.
فما أشقانا اليوم من دون عملاقين متناقضين متلازمين متكاملين فارقانا وما افترقا: خليل أخذ من أسبوع الخيبة حقّ الصدارة، أخذه انتزاعًا وهذا دأبه. وأنطون استأذن بما عهدناه فيه من حياء وخفر، مكتفيًا بالطرف الأخير.
ويمضي بنا الزمن اللبناني كما العربيّ، طويلًا، مفرَغًا من كلّ حركة كانت تبرّر حسبانَه زمنًا.