إبراهيم خليل 1 حجم الخط
تمر هذه الأيام الذكرى الأربعون لرحيل الشاعر صلاح عبد الصبور الذي رحل في 13/ 8/ 1981 وصلاح عبد الصبور أحد رواد الشعر العربي الحديث. فهو في مصر كالسياب، وكالبياتي، وبلند الحيدري في العراق، وكأدونيس في سوريا، وخليل حاوي، ويوسف الخال، في لبنان، وفواز عيد في فلسطين. غير أنه خلافا لغيره من الرواد صُنّف شعره في التيار الميتافيزيقي، في ما كان أكثر الشعراء يحسبون على التيار الماركسي الاشتراكي، أو القومي السوري، أو القومي العربي، أو الرومانسي، أو الجمالي، الذي يهيم بالجماليات فحوىً وشكلا مما ينسحب بصفة خاصة على شعر نزار قباني. وتهيمْن على أشعاره المبكرة نغمة الحزن، والأسى، لأنه كان يعتقد ـ ولعله في الموقف الصحيح – أن الشعر ينبغي له ألا يعبر إلا عن الأحاسيس الذاتية، والمشاعر التي تطغى على الإنسان المعاصر الذي يفتقر لكثير من البراءة، أي تلك الفطرة التي كانت تميز الإنسان في الماضي. ولذا يبدو لنا هذا الإنسان يكابر، ويتظاهر بما ليس في الواقع، إذا ادعى أنه سعيدٌ، فَرحٌ، وأن كلّ شيء على ما يرام، إذ الصحيح أن كل ما حول هذا الإنسان لا يشعره بغير القلق والإحباط والحزن، لهذا:
هناك شيء في نفوسنا حزينْ
قد يختفي ولا يبينْ
لكنه مكنونْ
شيءٌ غريبٌ غامضٌ حنونْ
والسؤال الذي يتبادر لذهن القارئ هو: كيف تأتى لهذا الشعور أن يكون غامضا، وحنونا، في الوقت ذاته؟ تقول القصيدة بعد هذا الاستهلال مباشرة:
لعله التذكار
تذكار يوم تافهٍ بلا قرار
أو ليلةٍ قد لفَّها النسيان في إزار
لعله الندمْ
لعله الأسى
وتتواصل هذه الظنون في تراكم يؤكد أن الحزنَ ضريبةٌ بلا ميقات على إنسان هذا الزمن تأديتها بلا تحفظ، أو تأخير، وإلا فالعذاب والحزن هما مصيره الحتمي. ويشير صلاح عبد الصبور في صورة تسفر عن هذا المعنى في قصيدة أخرى بعنوان موت فلاح. وفي أخرى بعنوان كلمات لا تعرف السعادة. وللحزن معنىً خاصٌ في شعره إذ يمتزج لديه ويندغم بمشاعر الاغتراب. فهو يخاطب في قصيدة أخرى المطربة اللبنانية فيروز متسائلا عما إذا كان بمقدور إنسان هذا العصر أن يتهرب من إسار الاغتراب:
وكأنَّ علينا قد خُطَّت أقدار
وكأن الغربة ميقاتٌ لا بد نؤديهِ
أنْ نضرب أعواماً في التيهِ
أنْ نعبد أصناماً مكذوبة
ونجدِّف في القلبين وقد خاضا في الحبّ
صحراءَ الشوق.. رهيبة
ففي هذا المقطع من «أغنية خضراء» يصرّح تصريحاً لا مواربة فيه، ولا لبس، وهو أننا مغتربون في عالمنا الذي يكاد لا يتعرف علينا، ولا نحن نعرفه. فكلنا يتخبط في تيه لا نبصر نوراً في آخره. ونحن أشبه بمن عبدوا الأوثان نواصل الكذب عندما نمجد القادة الطغاة، ونرفع لهم التماثيل، والأنصاب. فحتى الحبّ الذي يفترض أن يتصف بالصدق والوفاء والطهر والبراءة، يتحول في عالم اليوم إلى تجديف، وإلى تزييف، وأشواق تتلاشى في قفار وفلوات ملتهبة رهيبة يضيع فيها العاشق والمعشوق. ولا يفتأ صلاح عبد الصبور يُلحُّ إلحاحا شديدا على هذا المعنى، مؤكدا أن الحبّ، وهو الشعور النبيل السامي، تحول على أيدينا إلى ادعاءات، وإلى أغنياتٍ لا تحفل إلا بما هو نفاق، لذا لا فرقَ عنده بين الحبّ والموت:
لو فتّحتْ للشمس عيناهُ
كنا ادعيناهُ
وما تركناهُ
في مهمهٍ قاس دفناهُ
في قلبه أنفاسهُ تبكي
أنا هجرناهُ
وبما أنَّ الإنسان المعاصر في حاجة ماسّةٍ لما يخفف معاناته، ويقلل من أساهُ، ويكبح شعوره بالاغتراب، وزيف الأحاسيس، فإنّ حياته يهيمن عليها المللُ والسأم. وذلك بسبب الخيبة المرة، والكوارث العبثية التي تطغى على حياته، فعلى لسان هذا الإنسان ـ إنسان هذا العصر والأوان ـ يقول الشاعر:
أنا الذي أحيا بلا أبعاد
أنا الذي أحيا بلا آماد
أنا الذي أحيا بلا أمجاد
أنا الذي أحيا بلا ظلٍّ، بلا صليب
حين أتاني الموتُ لم يجد لديَّ ما يميتهُ
فعُدْتُ دونَ موت
فالإنسانُ، الذي كان في ما مضى صلباً عنيداً يحقّق المعجزات بإرادته القوية، وعزمه الذي لا يلين، أصبح في زمان الناس هذا خائرَ القوى، مهزوما، هاربا من مواجهة مصيره الحتمي، لهذا يتخيل عبد الصبور الإنسان في هيئةٍ فارس شجاع هُمام آلتْ به الأمورُ ليكون نموذجًا للفارس المهزوم، الذي فقد كلَّ شيء، ولا يفتأ يحاول أن يسترد مجدهُ الداثر، وماضيه العاثر، بلا فائدة:
ماذا جرى للفارس الهمامْ
انخلعَ القلبُ وولّى هاربًا بلا زمامْ
يا من يدلُّني على طريق الدمعة البريئةْ
والضحكة البريئةْ
لك السَلامْ
لك السَلامْ
ومن المعروف أنَّ لصلاح عبد الصبور تجاربه الغنيَّة في المسرح الشعري. ومن أبرز أعماله في هذا النوع الأدبي «مأساة الحلاج» (1965) التي فازت بجائزة الدولة عن المسرح لسنة 1966. وقد حذا في هذه المسرحية، كما في غيرها، حذو الشاعر الإنكليزي ـ أمريكي الأصل – ت. س . إليوت، في إعادة المسرح الذي طغى عليه النثر لدائرة الشعر المنظوم، الذي لا يخلو من الأوزان والقوافي، مستبعدا، بطبيعة الحال، ما تتَّصفُ به التقنيات الشعرية من تصنُّع. والحلاج هو أحد رجالات التصوف، واسمه الحسين بن منصور، وكان قد حوكم في بغداد سنة 309 هـ وصلب إثر تصريح له عن الفناء في الذات الإلهية. مما يعدّ لدى السلطة الزمنية، والدينية، ضربا من الهَرْطقة. وصلاح عبد الصبور يحاول في هذه المسرحية أن يجعل منه شهيد العَسْف الذي تمثله السلطة، مستفيداً مما في التجربة الصوفية من جوانب فنية رفيعة القدر، رهيفة المسلك. وما فيها من كشفٍ يتساوقُ مع إلهام الشاعر الفنان على أساس أنّ الشاعر والصوفيّ كليهما يبحث عن الاتساق في هذا الكون، والتناغم، فيصورهُ كلٌ منهما في مثالٍ للخير، والحب، والكمال الإنساني. ومن هنا سلط عبد الصبور الضوء على التصوف، وعلاقته بالسياسة. فهل كان الحلاج على حقٍّ فمات مظلوما، أم السلطة هي التي كانت على حق. تلك هي مأساة الحلاج التي لقيت من يقوم بإخراجها (سمير العُصْفوري) وعرضها على خشبة المسرح، شأنها في ذلك شأن مسرحياته الأخرى.
على أنَّ النقاد الذين شاهدوا تلك العروض لم يشعروا إلا بقليل من الرضا. ولاحظوا أنّ الفرق بين المسرح الشعري الذي يكتبه صلاح عبد الصبور ومسرح الفُرجة، الذي يكتبه ألفريد فرج، ونعمان عاشور، وعلي سالم مثلا، وغيرهم.. فرق كبير. وادعى بعضهم أن من الأفضل تسمية «مأساة الحلاج» قصيدة طويلة على تسميتها مسرحية شعرية، فإذا نظر إليها من هذه الزاوية ـ نقدياً- رجحت على أيِّ وصف آخر بما في ذلك المسرحي.
ويُذكر أن للشاعر أربع مسرحيات أخرى، هي: «مسافر ليل» 1969 و«الأميرة تنْتـظر»1970 و«بعد أن يموت الملك» 1973 و«ليلى والمجنون» 1981. أما دواوينه الشعريه فأشهرها «الناس في بلادي» 1957 و«أقول لكم» 1957 و«أحلام الفارس القديم» 1964 و«تأملات في زمن جريح» 1970 و«شجر الليل» 1972 و«الإبحار في الذاكرة» 1983 وقد صدر بعد وفاته. وله كتاب نثري بعنوان «حياتي في الشعر» صدر في بيروت 1969 وقد جمعت الهيئة العامة للكتاب في مصر دواوينه الستة المذكورة مع الكتاب الأخير في مجلدٍ صدر بعنوان الأعمال الشعرية الكاملة عام 1993. وله كتاب نقدي بعنوان «قراءة جديدة لشعرنا القديم». أما مساهماته، ومشاركاته في الدراسات والقصة والمقالات، فأكثر من أن يحيط بها هذا المقال القصير.
ناقد وأكاديمي من الأردن