المصدر النهار
20092017
تحرص جارتنا الفرنسية في لندن نينا لوبانوف، على تقديمنا الى ضيوفها الروس كلما سنحت لها الفرصة. ومع ان نينا متزوجة من امير روسي ابيض ينتمي الى اسرة اقطاعية تعتبر الثانية من حيث العراقة والاهمية بعد اسرة رومانوف، إلا انها تفاخر ايضاً بأصول عائلتها الفرنسية. أي الاسرة التي ينتمي اليها جدها لأبيها تشارلز بيكو، شقيق رئيس وزراء فرنسا السابق فرانسوا جورج بيكو (1870 – 1951).
كنت استخدم امام الجارة نينا اسم بيكو في معرض الانتقاد لكل مشاريعه التقسيمية التي حملت اسمه مع اسم زميله الانكليزي السير مارك سايكس. وبسبب تآمرهما على منطقة الشرق الاوسط، وحرص باريس ولندن على اقتسام اهم الاجزاء من الامبراطورية العثمانية المنهارة، قام ممثلا فرنسا وانكلترا بتوقيع اتفاقهما الشهير المعروف باتفاق سايكس – بيكو (ايار 1916).
وكان الامير اليكسي قد دشن مهمته الديبلوماسية كسفير لبلاده في برلين. وفي سنة 1859 جرى تعيينه وزيراً للخارجية، وراعياً للشؤون الخاصة بتصفية مشاكل الحرب التركية – الروسية.
في صباح يوم ماطر رأيت جارتنا نينا تدخل الى البناية وهي تحمل مظلة سوداء ترفعها بصعوبة فوق رأس سيدة سمينة كانت ترافقها. وعلى غير عادتها تحاشت تقديمي الى ضيفتها، واندفعت معها في اتجاه المصعد.
وقادني الفضول الى تفحص وجه الضيفة الجديدة التي رأيتها تتعمد اخفاء شعرها وجبهتها تحت “عرقية” من الصوف السميك. كانت عيناها الصغيرتان غائرتين فوق وجنتين منتفختين يدل جفافهما على وجود حطام نفساني عميق. ولاحظت ان معطفها الفضفاض كان يخفي تحته سروالاً مهترئ الاطراف وجزمة نصفية مصنوعة من المطاط. ولما توارت داخل المصعد مع نينا، تذكرت ان وجهها ليس غريباً عني، ولو انني عجزت عن تحديد شخصيتها وهويتها.
صبيحة اليوم التالي زارتنا الجارة نينا لتعتذر عن تجاهلها المتعمد الذي أبدته نحوي بالامس، مؤكدة ان صديقتها ترفض لياقات التعارف لاعتقادها بأنها غنية عن التعريف.
قلت مستغرباً: ومن تكون هذه السيدة المغرورة؟
ابتسمت وهي تهز رأسها موافقة كأن الوصف أعجبها وقالت: السيدة المغرورة هي سفيتلانا، الابنة الوحيدة للزعيم السوفياتي الراحل جوزف ستالين!
وعدت أسأل نينا بلجاجة وحشرية: وهل تعرفينها من قبل؟ وكيف جاءت لزيارتك؟
وترددت في الجواب الذي أعطته على دفعات قائلة: حقيقة الامر، انني قرأت كل الكتب التي نشرتها… وكنت أتابع أخبارها في الصحف. ولكنني لا أدعي معرفتها من قبل. كما انني لم أكن راغبة في لقائها. خصوصاً ان والدها ستالين هو الذي امر باعدام والد زوجي نيكيتا لوبانوف، ثم طارد أفراد عائلته أثناء تصفيات التطهير.
ثم توقفت عن الكلام فجأة اللندنية، وقالت: “في المبنى الاخير تشغل “جمعية موربث” غرف الطبقة الثالثة حيث كانت تتردد سفيتلانا كل اسبوع لقبض مخصصاتها الاسبوعية (62 جنيها استرلينياً). ويبدو ان لهذه الجمعية الانسانية مهمات أخرى تتعلق باعادة تأهيل المحبطين نفسانياً، والمنبوذين اجتماعياً والمضطربين ذهنياً وكانت ابنة ستالين تعاني من كل هذه الامراض، الامر الذي يضطرها الى الاسترشاد بنصائح بعض أطباء اليوغا في مركز الجمعية”.
ثم انتقلت جارتنا الى الحديث عن الزيارة التي فاجأتها بها سفيتلانا، فقالت: “أخبرني البواب انه رأى ابنة ستالين تنتظر على الرصيف موعد فتح باب “جمعية موربث”. وكان شاهد صورها على صفحات الجرائد وشاشات التلفزيون، وهي تدخل الى الدير الذي اختارته في بريطانيا للعزلة والانسحاب من الحياة العامة. ولما أخبرها بأنه يتابع قصص رحلاتها الى الولايات المتحدة، اطمأنت الى حضوره، وراحت تستوضحه عن جنسيات سكان المجمع، وما إذا كانت بينهم عائلة من أصول روسية. وأعطاها رقم شقتنا مفترضاً انني أتشوق للقاء ابنة ستالين”.
وأكملت نينا تروي تفاصيل ذلك اللقاء، وتقول: “في مساء يوم خريفي، قرع جرس الباب وأنا منهمكة باعداد العشاء لبعض ضيوفنا. ولما فتحت على عجل، رأيت امرأة غريبة بادرتني بلغة انكليزية صافية، ما إذا كنت آذن لها بالدخول. ولما وقفت في صحن الدار، قدمت نفسها باللغة الروسية، مع الاعتذار عن تطفلها بالمجيء الى بيت لا تعرفه. ثم اعتذرت مرة ثانية لأن زيارتها جاءت في وقت غير مريح لربة بيت مشغولة في المطبخ. وقبل أن أجيب، توجهت معي نحو المطبخ، وقامت بحركة تدل على استعدادها لمساعدتي في تقشير البطاطا. ولما سألتها ما إذا كانت تريد فنجاناً في الشاي، ردت بالتأكيد، متسائلة: وهل تعرفين في حياتك روسية أو شخصاً روسياً، يرفض شرب الشاي؟”. وكانت بهذا السؤال تمتحن الى حد ما، خبرتي في الانسجام مع طبيعة الشعب الروسي الذي عرف بولعه بشرب الشاي، قبل البريطانيين بزمن طويل، بل قبل أن يكتشف الفودكا”.
عند حلول موعد العشاء غادرت سفيتلانا على عجل لأنها تتحاشى لقاء أناس لا تعرفهم من قبل. ومع ان الدير الكاثوليكي الذي لجأت اليه في بريطانيا، لم يوفر لها أسباب الطمأنينة، إلا أنها وجدت في غرفتها الصغيرة وسريرها الحديد العتيق، راحة معنوية لم تعرفها خلال حياة التنقل والهجرة الدائمة.
وفي كتابها “عشرون رسالة الى صديقة”، تعترف سفيتلانا ان عائلتها الفقيرة كانت تنتمي بالايمان الى الكنيسة الارثوذكسية المتزمتة. وتروي ايضاً ان والدها جوزف ستالين أخبرها مرة ان جدته كاترينا دروغشيلي قررت أن تجعل منه كاهناً في احدى قرى جورجيا. ولكن الشيوعية في ذلك الوقت كانت تتسرب عبر العقيدة الماركسية الى المدارس والكنائس. ومن وسط الخلايا السرية اكتشف ستالين طريقاً آخر شدته الى صفوف الحزب وهو في العشرين من العمر. وهكذا انقلب التلميذ الخجول الورع الى وحش سفاح قضى على عشرين مليون نسمة من المواطنين الروس أثناء عمليات التطهير.
وقد حملت ابنته الوحيدة وزر تلك المجازر طوال عمرها. علماً بأنها حاولت مراراً تبرئة والدها من المسؤولية، وتحميل مساعده بافلوفتيش بيريا (رئيس البوليس السري – تشيكا) كل تبعات الجرائم المقترفة بدم بارد. ويبدو أن الاستخبارات الاميركية (سي آي إيه) التي ساعدت سفيتلانا على الهرب الى الولايات المتحدة، كانت مهتمة بنشر الكتب عن وقائع تلك المجازر بهدف تلويث سمعة ستالين وسمعة النظام الشيوعي. وربما اضطرتها ظروفها العائلية الى الاذعان لارادة الاستخبارات بحيث انها مزقت جواز سفرها السوفياتي، وهاجمت والدها بقسوة واصفة إياه “بوحش معنوي فاقد الشعور بالانسانية”. ثم تراجعت عن تلك الاتهامات بعد مدة، مدعية انها أطلقت تلك الاوصاف من موقع الانتقام لوالدتها التي انتحرت بعدما اكتشفت ان زوجها يخونها مع نساء عدة.
والحقيقة كما جاء في أرشيف “الكي جي بي” ان ستالين تضايق من عتاب زوجته المخلصة “ناديجدا”، فاطلق النار عليها ثم مشى في جنازتها مع كبار قادة الحزب، وراء تابوت لم تكن في داخله جثتها. المهم ان سفيتلانا واظبت على الزيارات التي كانت تقوم بها لجارتنا نينا وكانت تحرص على عدم لقاء الزوج نيكيتا لئلا يذكرها بأن والدها قضى على غالبية افراد عائلته. وقد تكررت تلك الزيارات في شتاء 1996 بعدما انقذت زوجها الثالث بيترز من الافلاس، ودفعت عنه مبلغ 800 ألف دولار، هي كل ما حصلت عليه من دار النشر.
والمؤكد انها كانت تعاني من الحاجة الى بعض المال، بدليل انها طلبت من نينا الاتصال بي لتأمين مبلغ الف جنيه تكون ثمن بطاقة السفر لحفيدها. واشترطت أن يكون ذلك المبلغ ثمناً لحديث صحافي. ونقلت نينا طلبها بالحاح لأنها في شوق لرؤية حفيدها الذي سيأتي الى لندن لتمضية عيد رأس السنة معها. ولما أرسلت لها الاسئلة وكانت في مجملها تركز على حياة والدها، كتبت الى جارتنا رسالة نارية ترفض فيها العرض، مدعية ان اقتناعها عن والدها لا يباع بكل ذهب الارض!!
واللافت في هذه الواقعة ان سفيتلانا كانت تعاني من مرض انفصام الشخصية، بحيث انها كانت تكره والدها لما سببه من مظالم… وكانت تحبه في الوقت ذاته لأن انتماءها اليه وتعلقه بها، وفرا لها حياة ما كانت لتحلم بها. وهي لم تنكر ان ماضيها في الكرملين، شق أمامها الطريق لجني مكاسب من الكتب الثلاثة التي أصدرتها، والاحاديث الصحافية التي نشرتها. وبدلاً من أن تهتم بها ابنتها أولغا وتضبط حياتها على ايقاع العصر، قامت بابتزازها وتبديد أموالها على زوجها الفاشل.
وهذا ما فعله حفيد ستالين، شفيلي الذي هاجر الى الولايات المتحدة بعدما ساعدته الاستخبارات الاميركية على النزوح من روسيا، بواسطة تأشيرة سياحية. وشفيلي هو حفيد ياكوب نجل ستالين الذي أسره النازيون وأعدموه خلال الحرب العالمية الثانية.
وهو لا ينكر انه استخدم اسم جده جوزف ستالين كجسر للعبور الى “نعيم الامبريالية الاميركية”. وبعكس سفيتلانا، فهو يرى الزعيم “الفولاذي” ستالين رمزاً وطنياً لأنه قضى على جيوش هتلر.