سمير عطاالله
النهار
09052018
هذا يوبيل أيار 68. تبعد الاشياء متكسرة على ادراج التاريخ، أحياناً بلا أثر، أحياناً بشيء منه. غبار يعلو إلى الجوّ، ثم يتلاشى في نفسه، يدوّن عبوره للتاريخ، ويمضي. فرنسا شعب جاهز في كل الازمان للهبوب إلى تحويل بلاط الشوارع إلى حواجز. وهي أيضاً الجاهزة لإرسال ديغول وعلى رأسه قبعة الاطفاء. ايار 68 هو الشهر الذي وقفت فيه ضد ديغول. نزل طلابها وعمالها ومعارضوها الى شوارع الحي اللاتيني خلف طالب الماني عمره 23 عاماً، احمر الشعر واحمر الشعارات يدعى كوهن بنديت، لكن هو لم يكن يعرف على وجه التحديد أين يذهب.
لا أحد يعرف حتى الآن تاريخاً محدداً لتلك الحركة التي خضّت فرنسا قبل 50 عاماً: هل بدأت في نانتير أوائل الشهر، أم في بولفار السان ميشال في 13 منه، أم أواخره عندما انضم 9 ملايين عامل الى أوسع اضراب في التاريخ؟
ليس مهماً، لكن منذ أوائل أيار بدأ الطلاب باقتلاع البلاط، وقطع الاشجار، ورشق الدرك الخاص بالحجارة والبيض، وتهديم سقوف محطات الاوتوبيس، واحراق السيارات السيئة الحظ التي صادف وجودها في امكنة الاشتعال وهواية الحرائق.
كما يحدث في كل انفجار جماعي في كل مكان. صار آخر حامل حجارة يرغي ويصيح وكأنه بطل الثورة ووريث روبسبير. وكان شارع لوي لو غران حاضراً لتأدية دوره كموقع للإنطلاق نحو جميع المباني الرمزية في مجد فرنسا: السوربون، البانتيون، قصر مجلس الشيوخ، وحدائق ماريا دو ميدتشي، اللوكسمبور.
لم يكن هناك بادىء الأمر “قائد” واحد للثورة. اعتقلت الشرطة كوهن بنديت واعادته الى المانيا، لكنه استدار وعاد سراً. وكان في انتظار الانضمام إليه مجموعات من الماويين والفوضويين والتروتسكيين ومَن شئت من متعطلين وفلاسفة. وإحدى أهم المراسلات التي كتبتُها لـ”النهار” يومها كانت من منزل الزعيم التروتسكي ألان كريفين، الأنيق واللبق والمسرور بوجود مراسل من لبنان في هذا المركز من الكرة الأرضية، الذي منه سوف تنعكس دورتها، تماماً كما أوقف يشوع بن نون الشمس بحركة من يده. اليمنى على الأرجح. ظل كريفين عضواً في “الحلف الشيوعي” حتى الآن، فيما تحول كوهن بنديت الى مصرفي بارز في مدينته الأم، فرانكفورت.
من الذي أدرك سريعاً ان الثورة تبحث عن “مؤلف” كما في مسرحية بيرانديلو؟ أجل، سارتر. جان بول. كان يومها قد اصبح في الثالثة والستين، على بعد ربع قرن من ألق الوجودية والسان جيرمان و”تيراس” الدوماغو، وشعر بأن صدأً حلّ بالعالم، في اليمين وفي اليسار.
وجد سارتر في الحركة التي تطورت الى خليط مفزع ومضحك وعبثي من قوى اليأس والفوضى – وجد فيها مطلاً جاهزاً لاستعادة الوهج. وفي سنه المتقدمة، ومتاعبه الصحية، اعتلى فيلسوف الحرب العالمية موجة حرب المونبارناس والسان ميشال. وسوف تكتب رفيقته سيمون دو بوفوار في مذكراتها (1984) ان “سارتر” (كما تشير إليه) كانت قد بدأت تظهر عليه إبان أيار 68 علامات السبعينات من العمر.
ضاع سارتر بين خنادق الحي اللاتيني. وكان انتقامه قصيراً من ديغول الذي وضع الى يمينه في الإليزيه، غريمه أندريه مالرو. من نافذة الاليزيه كان ديغول ينظر الى شوارع باريس ويسأل صاحبه: مالرو، ماذا حل بالفرنسيين هذه المرة؟
أيضاً ديغول ضاع وهو يرى باريس تحترق كما لم تحترق أيام الاحتلال النازي، وشبابها يصبحون خلف الالماني الاحمر الشعر. كيف يمكن فرنسا التي انقذها من الاحتلال ان يهددها هذا الطارىء؟ في 30 أيار غادر الى مكان لا يعرفه أحد حتى رئيس وزرائه جورج بومبيدو. هو، كان في القاعدة العسكرية الفرنسية في المانيا عند رفيقه الجنرال ماسو: هل يجب انزال الجيش؟ لا. عاد من هناك الى قريته كولومبي ليبدأ الاستعداد لأمرين: تهدئة فرنسا والخروج من عالم كوهن بنديت. لا تليق المبارزة مع الدهماء.
أصيب في مواجهات أيار مئات الطلاب والشرطة. وتحت نافذتي في فندق “غاي لوساك”، المتفرع من بولفار السان ميشال، كانت باريس تحترق وتختنق بدخان السيارات المشتعلة وقنابل الغازالمسيل للدموع. وأدرك عقال فرنسا ان هوائيات سارتر وشهوات كوهن بنديت سوف تدمر البلاد، فخرجوا بمئات الآلاف إلى الشانزيليزيه وساحة النجمة، التي سوف يصبح اسمها ساحة شارل ديغول، شعوراً بالندم على إهانة أمير النزاهة والورع الوطني.
حاول شبان أيار 68 قتله. قتل الأب الذي اينما تطلعوا في التاريخ شعروا أنهم في حاجة إليه. كيفما تلفتوا رأوا أنه نقطة الارتكاز، وما عداه فوضى وسوريالية وفتيان يرفعون الشعارات في عرض الشوارع، ويمارسون الجنس على اطرافها. وإلى الآن ليس هناك من اسم متفق عليه لتعريف أيار 68. الأكيد انها محنة كبرى ومريرة ومجزئة مثل كومونة 1871، ومثل فيشي 1940، ومثل جنرالات الجزائر الذين كادوا يوسّعون المجزرة الى البر الفرنسي. كان جاك شيراك وزيراً شاباً وغير معروف عندما وقف الى جانب ديغول وبومبيدو. وسوف يرث الجمهورية الخامسة في ما بعد. وربما كان وريثه المباشر الآن هذا الشاب الشوفالييه ايمانويل ماكرون. وماذا يمنعه من ان يضيف إليها شارة النبلاء، “دو” ماكرون. فعندما منحها أونوريه بلزاك لنفسه لم يأبه أحد للأمر. غير ان أونوريه، لاحقاً “دو” بلزاك، كان أفقر من ان تحتمل كتفاه احمال اللقب الذي ما لبث ان اصبح اكبر منه بكثير.
العام 2016 بيعت من كتاب سارتر “عصر العقل” 32 نسخة. بهت كثيراً عالم مؤلف “الكلمات” و “الكائن والعدم” و “الأيدي القذرة”. ولم يعد لـ”الماويين” ذكر حتى في الصين. وكل ما كان قضية العام 1968 لم يعد إلا صفحة تاريخية سالفة تنفع في المقارنة. حاول برنار هنري ليفي ان يحل محل سارتر، لكن اللغة وحدها لا تفي. وفيما انحسرت آداب سارتر وآنياته وموجاته القصيرة، لا يزال معاصروه ورفاقه في خلود الكلاسيكيات الباقية: مالرو وكامو. والأخير هو الذي رفض فكر سارتر وفلسفته بأنه “لم يبق سوى العنف”. ولو عاش عقداً آخر حتى 1968 لسمعه يقول أيضاً: “لم يبق سوى الشارع، هيا”.
العام 1967 قتل تشي غيفارا، قديس الثورة العالمية. وعلى نحو ما، كان الاحباط الذي حل برومانسيي العالم، أحد أسباب أيار 68. لكن الحزب الشيوعي الفرنسي تردد في مباركة ثورة أيار لتخوفه مما قد ينشأ عنها من فوضى ضد المؤسسة. ففي الناحية المقابلة، كان الشيوعيون أيضاً يطلبون الحرية في “ربيع براغ”. وصار معنى الثورة مزدوجاً ومريباً أحياناً. وغرقت أميركا اللاتينية بعد غياب غيفارا في توحش المتطفلين. وامتدت الحركة الطالبية الى جامعات أميركا الكبرى مثل بيركلي. لكن جيل أيار 68 تراخى وانضم الى المؤسسة. وعندما اصبح في الحكم مثل ليونيل جوسبان في فرنسا وغيرهارد شرويدر في المانيا، كان “عصر العقل” قد عاد حقاً.
لقد وصل الاشتراكيون الى الحكم للمرة الأولى في التاريخ ولكن بلا حواجز. وكان يمثلهم فرنسوا ميتيران الذي حاصره الفوضويون في أيار 68 امام البراسري ليب في غضب كاد يكون قاتلاً. لم تعدم فرنسا نماذجها التاريخية في الوسط وفي اليسار. ايمانويل ماكرون ظاهرة أخرى، لا هنا ولا هناك. بعد ولايتين قصيرتين من شبهات ساركوزي وصبيانيات هولاند، فرنسا تلمع من جديد.