يسمي الانكليز الشيخوخة، مرضاً، وسماها ديغول، غرقاً. وقد غضبت القارة الاوروبية لسخرية دونالد ترامب من عجزها. وكان قد سبقه إلى ذلك منذ سنوات دونالد الآخر، دونالد رامسفيلد، الذي هزىء من معالم الكِبَر في “العالم القديم”.
لكن اكثر وقائع العالم وضوحاً في هذه المرحلة ثلاثة: النهضة المتعددة والمذهلة في الصين. وبراعة فلاديمير بوتين في لعب دور الدولة الكبرى، بعد مرحلة من الخبو الروسي العام، واندفاع دونالد ترامب إلى “استعادة عظمة أميركا”، ومعه مجموعة من الجنرالات، ذوي السِيَر العسكرية في دولة لم ترجع عملياً من الجبهات، منذ الحرب العالمية الأولى.
أوروبا خارج الصورة. وإذ تدخل عامها الانتخابي الكبير، من فرنسا إلى المانيا، لا تبدو المسألة أكثر من صراع برلماني في الأرياف، لا سياسيّاً ولا اقتصاديّاً، ولا حتى حضاريّاً، سوف يكون للمتغيرات الأوروبية أي اثر عالمي. الأورو اليوم، مثل الفرنك في سنوات سقمه الطويلة. واليسار والوسط واليمين، في ازمات وجودية متفاوتة. ويمكنك المرور من أمام اعمدة الجمعية الوطنية في باريس كل يوم، من غير أن يأتيك من الداخل صوت هيغو، أو دالادييه، أو فنسان اوريول. ما في حدا.
القارة اليوم دول خائفة من آثار اقدامها الاستعمارية. وحتى من حلفائها في تلك المرحلة. كان الاتراك حلفاء الألمان التقليديين في مواجهة الجيران الاوروبيين. الآن يخاطب رجب طيب اردوغان أنغيلا ميركل، بكلمات مبتذلة ولهجة شارعية، مطمئناً إلى موقعه الجديد في كنف فلاديمير بوتين، ويرفع في وجه ألمانيا سلاحه الأكثر مَضاء: فتح قناطر أوروبا أمام اللاجئين.
ليس اردوغان في حاجة إلى لغة ديبلوماسية، أو سياسية مقبولة، يخاطب بها الآخرين على مستوى الدول. لا يملك الوقت لذلك، ولا الصبر على اختيار التعابير والتزام المعايير. يعرف أن العالم يفهم لغة واحدة، هي الخوف. وكما ارتعد هو من عضلات بوتين، ثم تحسّب لوصول ترامب وعسكرييه وموازنته الدفاعية، على أوروبا أن تخافه وتخبئ رأسها في الأرض. الزمن لا يحتمل أن يبقي النعام رأسه فوق الرمل. وأوروبا نعامة جميلة وعطوبة كبرى.
مسكينة، القارة القديمة. فقط الضعفاء يبحثون عن الطرق إليها. في أيام قليلة وقَّعت السعودية اتفاقات ما بين الصين واميركا قيمتها 265 مليار دولار. الملك سلمان بن عبد العزيز في بكين، ونجله محمد بن سلمان في واشنطن. البحث عن شركاء كبار في مواجهة المرحلة المعبأة، يقتضي قراءة حقائق العالم كما هي، وليس في ضوء رومانسية العلاقات القديمة: الافرقاء الثلاثة، اميركا والصين والسعودية، يواجهون، على رغم فوارق التاريخ وشواسع الجغرافيا، عدواً واحداً، هو الإرهاب. ويواجهون تحدياً واحداً، هو كفاية الشعوب ومستوى حياتها وضماناتها. وفي هذه الابواب لم يعد مهماً كثيراً أن تكون مسلماً أو مسيحياً أو ملياراً و200 مليون صيني يرفعون راية اليسار، ويتجاوزون على اليمين.
التحديات واحدة وسبل المواجهة واحدة والمخاطر واحدة. لم يكن العالم واحداً في أي مرحلة من مراحل التاريخ، كما هو اليوم. المخاوف في مصر هي تقريباً المخاوف التي في فرنسا: أن يجر الهمجيون البلاد إلى حروبهم.
مثل فرنسا، بنيت مصر على أن الدولة هي كل شيء: هي المدرسة والجامعة ووزارة الصحة. عاد وزير التربية طه حسين من فرنسا، كما عاد منها الحبيب بو رقيبة، بفكرة الزامية التعليم. في فرنسا لا تزال الدولة هي المعلم الأكبر والجامعة الكبرى والمستشفى الأهم. في مصر تحولت مجانيات التعليم والصحة إلى مصائب.وتحول البرلمان إلى مشكلة بدل أن يكون واجهة الأمة.
دائماً كان الخوف على العالم من حدة الخطاب، لا من حدة السيف. وسواء كان الزعيم يتكلم اللغة الألمانية الثرية المفردات، أو التركية المحدودة بتعابير الغطرسة والانقضاض، فالنتيجة على الآخرين واحدة. كان مضحكاً – ومؤلماً ومخيفاً – أن يصف اردوغان ميركل بالنازية، بالطريقة التي تحدث بها. لم ينقصه سوى شاربي هتلر، وأن يرد خصلة شعر على جبينه.
فيما تندفع الدول الكبرى الثلاث، الصين، أميركا، روسيا، نحو المزيد من القوة والتقدم والنفوذ، تبدو الدولة الاوروبية الموحدة في خطر: تيريزا ماي وبوريس جونسون، مكان مارغريت تاتشر وجيفري هاو. التاريخ في نهاية الأمر أفراد، لا جماعات. لم يترك ليندون جونسون انقلاباً عسكرياً في العالم الثالث إلا شجعه، أو كان خلفه. وعندما سقط نصف مليون قتيل في أندونيسيا، لم يكن بعيداً. ثم أكمل الطريق إلى الفيتنام. ولكن بما أنه لم يكن مباشرة على رأس الفرقة، لم تخطر لأحد المقارنة مع هتلر أو ستالين.
تبدو أوروبا الهرمة اليوم، بلا رجال. ساركوزي بالكاد أمضى السنوات الخمس، وها هو هولاند يكملها من غير أن يترك لخلفه الاشتراكي وزنة واحدة. وعلى رغم الخلاف الجوهري في كل شيء، فإن في واجهة القارة ثلاث نساء: ميركل، ماي، لوبن. في المقابل، يبدو كل شيء في الدول الكبرى الثلاث في أيدي ثلاثة رجال: ترامب، وشي، وبوتين. والثلاثة فرديون، أو شخصانيون، لا يعطون الكثير من الأهمية للآحزاب التي يمثلونها. وينظر كل منهم إلى العالم في رؤية مناقضة تماماً للآخر، لكن أحداً منهم لا يريد أن يلغي عالم الآخر. لن تكرر اميركا فكرة الحرب الايديولوجية لئلا يتحوَّل الانتصار مرة أخرى الى هزيمة بلا حدود.
روسيا، التي فتح لها عبد الناصر بوابة الشرق، وطردها انور السادات منه، لم تعد تحتمل أن تدفع مرة أخرى، تقلّب المزاج العربي. هي تدير الحرب في سوريا، وهي تريد أن تدير أكثر عملية سلام في التاريخ تعقيداً. وفي أفغانستان، كان عدوها الأول اميركا، لكن الآن في سوريا والعراق، يحضر المتنبي كما حضر تماماً زمن سيف الدولة: فيك الخصام وانت الخصم والحكم. تتقاتل واشنطن وموسكو وبكين في الأمم المتحدة، وتتمخطر معاً في الرقة. وثمة ادارة اميركية جديدة لاتدرس كيف الانسحاب من الحروب، بل كيف دخولها. فعندما يقول ترامب “أميركا عظيمة من جديد”، ويستعين من أجل ذلك بمجموعة من الجنرالات، لا يقصد العظمة من خلال الدورات الاولمبية. يقصد بالتحديد، عدم التحول إلى أوروبا أخرى، تعتمد في دفاعها على أميركا. قارة لا تملك أكثر من حاملة طائرات واحدة. تكون قوياً عندما تكون مستقلاً. وثمة تعريف جديد لـ”الدول الكبرى” نشأ من تلقاء ذاته. لم تعد هذه الدول المنتصرة في الحرب العالمية الثانية، بل الدول القادرة على منع حرب عالمية ثالثة وأخيرة، لم تصلها نبوءات نوستراداموس، ولا مخيلته، ولا استعارته – النبؤات – من مظاهر الطاعون الذي كان يساهم في محاربته. الحرب المقبلة لا طبابة فيها، ولا تأملات مكتوبة باسلوب “سفر الرؤيا”.
يتعين على منظومة الدول الكبرى الجديدة أن تتلاقى على سبل تجنب الفناء الكلي الذي أعدته المنظومة القديمة. وليس ممكناً أن تكون هناك دولة كبرى من دون اقتصاد كبير. ولا يكفي الهند، مليارها من البشر، ولا حتى ما حققت من تقدم علمي واجتماعي. أضيفت شروط كثيرة وصعبة الى شرط “الكَِبَر”. يجب أولاً أن تستوعب شعبك، لا أن ترميه على سواك. القيادة الصينية تفكر في أمر واحد: الصينيين. صحيح أن ابناء زعماء الحزب الشيوعي يصلون أحياناً ألى المرتبة الأولى في لائحة كبار الاثرياء، لكن الكفاية وكرامة العيش تصل الى مئات الملايين في الأرياف والأقاصي. وقد يكون اقتصاد شانغهاي وحدها في حجم اقتصاد دول أوروبية عدة. هكذا كان مستوى ووتيرة النهضة الصناعية الاميركية في الماضي، عندما كانت “جنرال موتورز” تفوق اقتصاد بلجيكا.
هذه هي الدول الكبرى اليوم. ذهب زعماء العالم الثالث الى باندونغ العام 1955 لكي يقيموا عالماً متحرراً من نير الماضي، السياسي والاقتصادي. والنجاح لم يكن شاملاً: نجح إرث نهرو وإرث شو آن لاي. وانفرطت يوغوسلافيا بعد تيتو. وافريقيا لا تزال في الديكتاتورية و”ظلمة” جوزف كونراد. ومصر التي كان برلمانها مكرم عبيد ومصطفى كامل وسعد زغلول، اصبح برلمان علي عبد العال، يقاضي الصحافيين ويطرد النواب.