21-06-2022 | 00:00 المصدر: “النهار”

وديع صبرا.
بعد اختيار القصيدة التي فازت بالنشيد الوطني وهي من تأليف رشيد نخله (1873-1939) الذي تبرع بالجائزة الى فقراء البلاد، أصدر وزير المعارف في تشرين الثاني 1926 بيانا قال فيه: “إن النشيد الوطني الذي فاز معروض الآن على الملحنين ليتباروا في تلحينه ويكونوا على أهبة الإنشاد والتوقيع مع النوطة أمام لجنة المحكمة التي تجتمع في الساعة التاسعة من صباح 26 نيسان 1927 في قاعة المدرسة الموسيقية الوطنية وجائزة اللحن 200 ليرة لبنانية سورية”. وفي النظر الى أهمية العمل صدر في 19 تموز 1926 مرسوم جمهوري جاء فيه “أنه سيتم اختيار اللحن الموسيقي في المدرسة الموسيقية الوطنية. وسيتم ذلك أمام لجنة تحكيم تألفت برئاسة وزير المعارف العمومية والفنون الجميلة نجيب أميوني وعضوية كل من السيدات والسادة الأب كولنجت، الأب بولس الأشقر، المستر دامي، مدام ألبير أفندي بسول، مدام فلكس فارس، جوزف أفندي ريبور، بول أردمن، خ. عودة، جورج القرم، جان راكو، د. كارباسيتي، أ.كوكل (أركادي غوغل)، إدوار جهشان، أحمد التنير، إسكندر لاذقاني، كميل شمبير، أحمد فليفل، هنري فرعون، وستكون مكافأة اللحن مئتي ليرة لبنانية سورية”.
انتقدت الصحف مضمون المرسوم وخصوصا القيمة المادية المقررة للحن الفائز فكتب الأخطل الصغير في افتتاحيته في جريدة “البرق” بتاريخ 11 تشرين الثاني 1926: “كان يخلق بوزارة المعارف ومن ورائها مجلس الوزراء أن ينزهوا النشيد الوطني عن المساومة، لا سيما وقد رأوا أن كبار الشعراء الذين تباروا في نظم النشيد، أنفوا أن يكون لأناشيدهم ثمن مادي… وبما أن الموسيقي لا يقل عن الشاعر منزلة من حيث الشعور الوطني فهو لن يرضى أن يبيع تلك القطعة الغالية من روحه بثمن حقير”.
عيّن في صباح 26 نيسان 1927 موعد لمباراة اللحن الا أن اللجنة لم يكتمل عقدها، فصدر بتاريخ 29 نيسان 1927 مرسوم جمهوري جديد نص على تسمية السادة “فيليب الخوري، وجورج خليفة وإميل إنجليل وإدمون مجاعص ومحمد جاويش أعضاء في اللجنة التحكيمية بدلا من السادة كوكل وفليفل وشمبير وكرباسيتي الذين قدموا تلاحين من وضعهم”. واختير #وديع صبرا مدير الكونسرفتوار رئيسا للجنة التحكيم، إلا أنه ما لبث أن استقال من رئاسة اللجنة ليشترك بالمباراة، وحل محله الأب اليسوعي كولنجت، وهو من الموسيقيين المرموقين، كما انضم إلى اللجنة في الجلسة الأخيرة عدد من السياسيين من بينهم رئيس مجلس الوزراء ووزير المعارف الشيخ بشارة الخوري ووزير الداخلية موسى نمور. وربما كان مستغربا انضمام السياسيين الى اللجنة في جلستها الأخيرة، ولكن هكذا كان. عرضت الألحان المشاركة امام اللجنة التي استمعت اليها وبلغت ما يناهز الثلاثين واختارت للتصفية النهائية أربعة ألحان مرقمة: رقم ستة للسادة فليفل إخوان، رقم ثمانية لوديع أفندي صبرا، ورقم تسعة لمتري المر، ورقم ستة وعشرين لـ أ. كوكل. وقررت اللجنة عقد جلسة عامة لإختيار واحد من هذه الألحان الأربعة لاعتماده رسميا كنشيد وطني، على ما ذكرت جريدة “لسان الحال” في عددها الصادر في 17 أيار 1927.
ماذا حصل في مداولات اللجنة؟ يقول الباحث محمد كريم في كتابه “سيرة الأخوين فليفل اللحن الثائر” أنه كان من البديهي أن يفوز لحن الأخوين فليفل بالمرتبة ألأولى باعتبارهما المختصين الوحيدين بتلحين الأناشيد الوطنية، ولهما العديد منها تتردد على افواه الشباب، وهما اللذان عمما الوزن المناسب للنشيد على الشعراء المشاركين، وهما صاحبا فرقة “الأفراح الوطنية” المشهورة في ذلك الوقت بعزفها المارشات العسكرية والأناشيد الوطنية والموسيقية.

أعلنت لجنة التحكيم فوز لحن مدير الكونسرفتوار وديع أفندي صبرا بأكثرية أحد عشر صوتا مقابل تسعة اصوات للأخوين فيلفل. وبحسب مقابلة مع الأخوين فليفل لمجلة “الشراع” “كان هناك دهشة وإستغراب من قبلنا إزاء النتيجة النهائية. خرج الشيخ بشارة الخوري من مكانه في اللجنة واتجه الينا ثم ربت على كتفينا قائلا: “أعجبت كثيرا بلحنكما ولكن الظروف حتمت علينا وعلى اللجنة اختيار لحن وديع صبرا لثقافته وكبر سنه وشهرته في البلاد الأوروبية، وأنتما ما زلتما شابين والمستقبل امامكما”. بعد إعلان النتائج طلب الأخوان فليفل الإجتماع بالأستاذ صبرا وأبلغاه ملاحظاتهما الموسيقية على النشيد وخصوصا لجهة التصعيد الدرامي فيه وحتى نهايته، وهنآه بالفوز، وشكرهما بدوره على رأيهما السديد. وكتبت جريدة “لسان الحال” في عددها الصادر في 31 أيار 1927 الخبر على الشكل الآتي: “كان الفائز في تنظيم النشيد الوطني، الموسيقي اللبناني المشهور، وديع أفندي صبرا، وقد وضع لهذا النشيد الذي يرقبه الوطنيون نغما حماسيا مؤثرا يستفز العواطف. وكان أن عزف لأول مرة في نادي مدرسة الحكمة المارونية في أثناء تمثيل رواية على مسرحها بحضور رئيس الجمهورية وبعض النواب والوزراء والأعيان، فطرب القوم لهذا النغم الممتاز وسرت في نفوسهم نشوة السرور سريان الكهرباء في الأجسام وصفقوا له مرارا واستعادوه تكرارا”. في مدرسة الحكمة إذا صدح صوت النشيد الوطني للمرة الأولى في لبنان ليرافقنا على مدى 95 عاما مرافقة الأمل، وفي كل مرة نضع اليد على القلب، ونقف احتراما له، ونحدق حالمين في كل كلمة أو انعطافة لحن لنرى صورة لبنان الوطن، لبنان الإنسان.