يبرر الفريق السياسي صاحب المشروع، وهو فريق رئاسة الجمهورية، العقد مع شركة “ماكينزي” بأنه يساهم في إضفاء صدقية اكبر على العمل الحكومي تجاه المؤسسات الدولية، على أبواب مؤتمرات دعم دولية، وقد يكون هذا التبرير مشروعا، لو كان التعاون مع مؤسسة دولية ذات صدقية، كما حصل مثلا مع البنك الدولي الذي وضع تقريرا مفصلا عن الخسائر الاقتصادية الناتجة من أزمة النزوح السوري. لكن التعاون مع شركة خاصة في رصيدها بعض الإخفاقات في العمل مع نماذج دولية اخرى، يطرح مجموعة من الاسئلة التي تتطلب اجوبة واضحة من الحكومة المسؤولة اولا وأخيرا عن تحديد سياساتها، علما ان الحكومة في صدد تقديم مشروع موازنة السنة الجارية، ومن الطبيعي ان تحدد هذه السياسات ضمن المشروع، الذي على اساسه يحدد حجم الإنفاق الاستثماري والإنمائي كما يحدد المواد القانونية المواكبة.
اما السؤال الثاني فينطلق من موقع رئيس الحكومة من هذا الموضوع. فهل يتبنى الرئيس سعد الحريري تحديد هوية اقتصادية جديدة للبنان، قد لا تتلاقى مع سياسات الحكومات المتعاقبة؟
مردّ هذا السؤال ان الوزارات الاقتصادية الاساسية لم تعد في يد الحريري مثل المال او الاقتصاد والتجارة او الصناعة او السياحة او الزراعة. وفي هذا السياق، لا بد من استعادة تجربة الرئيس الراحل الحريري ابان عهد الوصاية السورية على لبنان، عندما وضع السوريون السياسة والأمن والخارجية في يد حلفائهم، وأطلقوا يد الحريري في الاقتصاد واستقطاب الاستثمارات.
وعندما تقرر مؤتمر باريس 2 لدعم لبنان، حرص الحريري على ان يحصّن حكومته بإنجاز اصلاحي مهم يضعه على طاولة الدول والمؤسسات المانحة، فكان مشروع إطلاق الضريبة على القيمة المُضافة الذي كان له الوقع الأكبر في إظهار حرص الحكومة في حينه على إطلاق رزمة من الإصلاحات المالية والضريبية التي أعدها الوزير الشهيد باسل فليحان. وثمة فارق كبير بين الاستناد الى دراسة شركة استشارية وبين إطلاق مشروع اصلاحي من شأنه ان يعطي إشارات قوية حول جدية لبنان في السير بإصلاحات مطروحة ومطلوبة دوليا منذ عقود.
اما الجواب عن السؤال اذا ما كان لبنان في حاجة الى تحديد هويته الاقتصادية، وهو السؤال الذي اثار استغراب وزير الصناعة حسين الحاج حسن الذي تساءل خلال ورشة عمل نظمها قبل شهرين المجلس الاقتصادي الاجتماعي، عن سبب لجوء الحكومة الى شركة استشارية على رغم ان لبنان يزخر بالكفاءات والطاقات والخبراء، وما الذي ستقوله هذه الشركة ولا يعرفه اللبنانيون؟ مشيرا الى انه من سخرية القدر ان يكون “حزب الله” هو من يطرح هذه الاسئلة ويدافع عن الاقتصاد في الوقت الذي كان هناك كثيرون يفخرون بإنجازاتهم في الشأن الاقتصادي.
والواقع ان ما اثاره الحاج حسن في محله لأن اكثر الاسئلة المطروحة في الوسط الاقتصادي تدور حول دور الكفاءات اللبنانية ولماذا لا تتم الاستعانة بها بدلا من اللجوء الى شركة اجنبية، علما ان هذه الشركة ستنطلق بمقاربتها مما ستسمعه من اللبنانيين وستبني نموذجها على الخلاصات التي ستخرج بها من لقاءاتها مع القطاعين العام والخاص، وَمِمَّا ستطلع عليه من أطنان الدراسات المكدسة في الأدراج والتي لم يؤخذ يوما بها. وللتذكير ان لبنان مر بتجربة مماثلة عام 1997 عندما شكلت لجنة من الخبراء وضعت تقريرا يمكن لقارئه ان يحسب انه كتب البارحة!
قد يكون لبنان في حاجة الى اعادة نظر في دوره او في مهمته الاقتصادية، وإنما ليس في هويته التي حددها الدستور. اما دوره فقد يحتاج حكماً الى اعادة تصويب في ظل المعطيات والمتغيرات التي استجدت في العقد الاخير، ومنها أمران لا بد من ان يطبعا مستقبل لبنان الاقتصادي، هما أزمة اللجوء السوري التي تركت آثارا كبيرة جداً على الاقتصاد، وملف النفط الذي وضع على سكة التنفيذ والذي سيضع لبنان ضمن مصاف الدول النفطية.
ويقابل هذين الامرين امر لا يقل اهمية، هو تراجع دور لبنان السياحي والخدماتي والمصرفي في ظل التقدم الذي حققته الدول المحيطة بانفتاحها، فيما يتراجع دور لبنان بفعل تراجع عامل الاستقرار والثقة والعقوبات.
ولكن هذا لا يعني ان هذا الدور انتهى، بل يعني ان السلطة اللبنانية مدعوة الى البحث عن المقاربات التي تعيد الى البلاد دورها.
وهذا يقود الى السؤال الاخير المتصل بمرحلة ما بعد دراسة “ماكينزي”: هل الحكومة قادرة على الالتزام بما ستوصي به الشركة الاستشارية؟ اذا نعم، لماذا لا تبدأ أولى خطواتها عبر تنفيذ مقررات باريس 2 و3 وكل الخطط الإصلاحية الموضوعة للكهرباء والاتصالات والنظام المالي والضريبي وللبنى التحتية؟ وهل بات لدى الحكومة القرار والارادة بالمضي في العملية الجراحية الإصلاحية المطلوبة، ام ان كل ما في الامر دراسة جديدة بمليون و300 الف دولار باتفاق بالتراضي، للذهاب الى باريس؟
sabine.oueiss@annahar.com.lb