02-03-2021 | 00:14 المصدر: النهار


البابا فرنسيس (أ ف ب).
للتحرّك السياسي المسيحي و”الوطني” للبطريرك الماروني بشارة #الراعي أسباب عدّة بعضها داخلي وبعضها خارجي. فهو أولاً لا يستطيع أن يرى الوضع السياسي والطائفي والمذهبي البائس في بلاده ولا الإنهيار الإقتصادي والنقدي والمالي والفساد يدفع #لبنان الوطن والكيان والدولة الى الزوال أو يضعه على طريق الزوال. هو ثانياً لا يريد أن يمرّ على هذا الموقع مرور الكرام ومن دون أن يترك بصمته عليه أي تحديداً من دون القيام بدور فاعل وقوي وناجح لإنقاذه يسجّله له تاريخ المسيحيين اللبنانيين كما تاريخ اللبنانيين كلّهم على تنوّعهم. تدفعه الى ذلك تجربة سلفه البطريرك نصرالله صفير الذي سمّاه محبّوه ومعارضوه من اللبنانيين على تنوّع إنتماءاتهم باستثناء “شعبٌ” واحد من شعوبه “أب الإستقلال الثاني” للبنان. هو ثالثاً لا يريد أن يخيّب أمل مواطنيه المتنوّعي الإنتماءات الطائفية والسياسية الذين نزلوا الى الشارع في ثورة شعبية سلمية مستحيلة النجاح أو صعبته بعدما فقدوا ثقتهم في غالبية قياداتهم السياسية وأحزابهم، فاتجهوا إليه طالبين الدعم والمساندة ليس للحسم بل لإقناع أصحاب الحل والربط في المنظومة السياسية الحاكمة والمعارضة في آن ولكن بتنسيق غريب عجيب لا يمكن أن يتحقّق إلا في لبنان. هو رابعاً لا يريد أن يخيّب المسيحيين المنقسمين. هو خامساً ظنّ أن استطاعته بالتقرّب من المسلمين الشيعة أولاً (ثم السنّة) الذين يعتبرهم الخائفون منهم سبب الأزمة اللبنانية المستعصية. هو سادساً حاول جمع المسيحيين على قانون انتخاب وعلى قضايا وطنية أخرى دونما نجاح يُذكر. الأسباب الداخلية المذكورة هي التي دفعته الى التدخّل في العمل السياسي والوطني في آن. لكنها على وجاهتها لم تكن كافية لتأمين نجاحه برغم صدقه ورغبته الشديدة في النجاح على ما يؤكد قريبون منه. لكنه أخفق ليس فقط لصعوبة المشكلات والأزمة ولإستعصائها على الحل ولأوجهها الإقليمية والدولية والسياسية والمذهبية والدينية، رغم الإعتراف بقدرتها على إفشال أي تحرّك، بل لأنه لم يمتلك خطّة واضحة لا في موضوع مشروع قانون الإنتخاب ولا في موضوع الرئاسة يوم كانت فارغة ولا في مشروع الحوار والتفاهم مع “حزب الله” الذي كان أول من انفتح عليه ولا في مشروع التفاهم مع السنّة ولا في أزمة الصراع المسيحي – المسيحي. بدا في حينه كمن يخبط خبط عشواء لا برنامج لديه ولا خطة، بل إستعداد طيّب لتفهّم الجميع. لكن إخفاقه لم يكن بسبب ذلك فقط بل لأن الذين توجّه إليهم أو معظمهم أقوياء كانوا أم ضعفاء لم يكونوا جاهزين للتفاهم على الأدوار والحصص، كما لم يكن حلفاؤهم الخارجيون جاهزين أيضاً، إذ أن الحروب في الإقليم كانت في أوجها ولا تزال. فضلاً عن أن الجو الدولي المنقسم والأميركي المتحمّس من دون خطة جدّية لم يكن جاهزاً لحسم الأمور في المنطقة أو لخفض حدّة الحروب والصراعات والعمل بجدية ونشاط لإعادة الإستقرار إليها. هل تغيّر هذا الوضع الآن داخلاً وخارجاً بحيث صار مؤاتياً لقيام البطريرك الراعي بتحرّكه ولطرح “مبادرته الوطنية” في نظر شعب وغير الوطنية في نظر شعب آخر والمسيحية فقط في نظر آخرين؟ لا شك في أن متغيّرات حصلت على صعيد الداخل المسيحي. فالراعي بدا أنه اتخذ جانب الأحزاب والتجمعات المعارضة أو المعادية لـ”حزب الله” وراعيته إيران متجاهلاً “التيار الوطني الحر”، ورئيس الدولة ميشال عون حليفا الإثنين، وذلك رغم كلامه عن الجمع ورغم إعتبار بعض قيادات هذا “المحور” أنه لا يعارض معظم توجهات بكركي الأخيرة لكنه يدعو الى العمل لتطبيقها بالحوار. على الصعيد الإسلامي بدا أنه حمّل المسؤولية كلها لـ”حزب الله” الممثل مع “حركة أمل” الغالبية الأكبر في الوسط الشيعي. وعلى الصعيد السنّي حرّكت مبادرة الراعي عواطف إيجابية داخل “تيار المستقبل” الذي يشارك مؤيّدوه وهم كثيرون مواقف الراعي من “حزب الله” وإيران. لكنها علماً أنها كانت عرفت قبل إلقائها يوم السبت الماضي، لم تدفع جمهوره الى الإشتراك شعبياً يوم أطلق المبادرة. كما أنهم ميّزوا أنفسهم إذ أيّدوا الحياد “الناشط والايجابي” الذي دعا إليه، لكنهم رفضوا أو ربما تحفّظوا على تدويل القضية اللبنانية. أما الدروز بزعيم غالبيتهم الكبرى وليد جنبلاط فتحدثوا عن إيجابيات. لكن يبدوا واضحاً من تحرّكهم حرصهم أولاً على وحدتهم كونهم طائفة غير كبيرة، وثانياً حرصهم على منع استدراجهم الى معركة سياسية قد تتحوّل أمنية أو ربما عسكرية قد يجلّون فيها لأنهم شعب محارب وتجاربه السابقة دليل على ذلك، لكنهم لن يجنوا منها سوى القتلى والجرحى والخراب كما حصل في السابق. فهذا هو لبنان. ما هي الأسباب الخارجية للمبادرة “الوطنية” أو المسيحية التي أعلنها البطريرك الراعي يوم السبت الماضي في بكركي؟ المتصلون ب#الفاتيكان من اللبنانيين والمتابعون لتحرّكاته من قرب خصوصاً التي منها على صلة بلبنان يقولون أن سيده أي بابا الكاثوليك في العالم الذي يعتبره كثيرون منهم “قديساً حياً” بسبب إنسانيته وتقشفه وانفتاحه ورغبته الصادقة في تقارب فعلي وجاد بين أتباع الأديان التوحيدية وربما غيرها، اظهر ذلك في مبادراته الأخيرة في الشرق الأوسط. ويقولون أيضاً أنه كانت له تحفظّات في مراحل معيّنة سابقة على سياسة بكركي أو لاسياستها أو بالأحرى على عدم وجود خطة استراتيجية متماسكة لديها لإنقاذ لبنان بمسيحييه ومسلميه. يؤكد هؤلاء أن زيارة الراعي الأخيرة للفاتيكان كانت ناجحة لأنه سمع من الحبر الأعظم وكبار مسؤوليه دعوةً حازمة الى التحرّك الفاعل ولأنه تلقّى من هؤلاء بعد الزيارة “خطوطاً عريضة” وربما صيغةً للسياسة التي يجب أن ينتهج. ويبدو أنه التزمها بحرفيتها. أهمية هذه المعلومات كبيرة إذا كانت دقيقة. ذلك أن الفاتيكان لا يمكن أن تنجح سياسة له في دولة ما إذا لم تكن تتوافق مع مصالح الدول الكبرى والفاعلة وأبرزها الولايات المتحدة ذلك أن لا جيوش لديه ولا دبابات كما كان يقول ستالين الاتحاد السوفياتي في الحرب العالمية الثانية. وهذا ما ثبت في بولونيا يوم أسقط الفاتيكان وكاثوليكها وهم غالبية ساحقة الحكم الشيوعي فيها. لكن الفاتيكان لم ينجح في لبنان منذ 1975 حتى اليوم إلّا جزئياً لعدم وجود تلاقي مصالح بين البابوية وواشنطن في هذه البقعة من العالم. فهل تلاقت أهداف الأولى مع مصالح الثانية وأهدافها في لبنان؟ أي جواب تأكيدي أو نافٍ عن هذا السؤال لا يزال سابقاً لأوانه. علماً أن #البابا فرنسيس وإن “قديساً حياً” لا يستطيع أن يفصل “المسار اللبناني عن المسار الإيراني”، ولا يستطيع أن يُقنع واشنطن وطهران بتقديم تنازلات متبادلة من أجل لبنان.
sarkis.naoum@annahar.com.lb