
أدرك المعلّم كمال جنبلاط ان فكرة العودة هي محور انشغال العقل البشري منذ آلاف السنين، وأنّ الإنسان كان ولا يزال يبحث عن السبيل الذي يعيده الى حيث كان قبل الرغبة والخطيئة والخروج من النعيم. وعرف ايضاً ان الباحثين عن النور كانوا يدركون عظمة ما فقدوا بعد ان أدركهم الظلام،وأنهم وجدوا من مصدر الضوء منارة للعودة الى النور الدائم والسكينة والأمان. وعرف المعلّم ايضاً أنّ البشر قد اختاروا الشرق طريقاً لعودتهم بما هو مبعث الضوء والدفء والأمان،وأنّهم اعتقدوا أنّ هناك شموساً تتوالد ثم تنطفىء فيحلّ الظلام، فكانت الشمس مصدر الإلهام ووجهة العودة الى الضوء التام الذي لا يخفت ولا ينهيه الظلام. اختار كمال جنبلاط الضوء نعيماً والشرق وجهةً،حيث عرف الانسان هناك أن العودة الى النعيم لا تكون الا بالتحرّر من الخطايا والرغبات،فتجرّد من أشيائه ورغباته وأثر الضوء على الظلام، وأراد العودة الى أصل وجوده في نعيم الخالق كي لا يتكرّر بالرغبات في دنيا المخلوقات العصاة.
أدرك المعلّم الفرق بين الطموح والرسالة، وبين القوّة والحكمة، والتملّك والتمعن، والغضب والسلام، والنهم والاكتفاء، فغادر المكان واستوطن في الزمان لتكتسب الأمكنة معناها من أزمنته وكذلك المواقع والتجمّعات، ولم ندرك يوم افترقنا أننا نحن من خرج من زمانه وبقينا في المكان، وهو من غادرنا ليبقى في الزمان وربما يولد بعد عام وربما بعد مئة عام.
أدرك الوجود بما هو عقاب، وأن العودة لا تكون الا باستعادة النقاء والترفّع عن العطايا والمكتسبات، وبتحرير الذات من الذاتيات، للتعرّف على عطايا الخالق من الأسرار التي خَصّ بها المخلوق الانسان حين نفخ فيه من روحه وعلّمه الأسماء كلّها وجعله على صورته قبل أن يعصى ويسفك الدماء. ميّز بين ظلم الوجود ومكرمة العقل، فتخلّى عن عطايا البشر وتماهى في عطايا الخالق من فكر ومعرفة، وأحسن التمييز بين الذين سَخَّروا تلك المعرفة لخلاص الانسان والذين استخدموا العقل في القتل والدمار والطغيان.
٧ كانون الثاني هو يوم ميلاد كمال جنبلاط قبل مئة عام، وربما يأتي ميلاده بعد مئات الأعوام، بعدما استوطن في الزمان. وقد تكون المئة عام الماضية هي تحديد عمر المكان. والفرق بين عمر المكان والزمان هو كالفرق في قياس الأنهار بين طول اليابسة على الضفاف وطول انسياب الماء.
لا أستطيع ان أشخصِن كمال جنبلاط بالتحدّث عن هذه الواقعة او تلك، أو عن مشاهداتي له أو ما سمعته منه، لأنّ إدراكي له هُو أنّني عشت في زمنه ولم أعش مع شخصه. ولقد شاهدته في أزمنة مختلفة وظروف وتجليات متنوعة ولم أكن في موقع من يوجه الأسئلة أو يقدّم المعلومات أو الاستنتاجات، لكنّي كنت مدركاً أهمية أنّي أعيش في زمنه عن قرب في المسافة، وأنّني كنت مجرّد لاقط انساني لذلك الحضور الإنساني المكثّف وتلك الروح المدركة لعظمة النفس ووضاعة الوقائع والأحداث. كان وجوده معنا قسريّاً، وكانت حرّيته تتجسّد في غيابه الطويل هناك حيث رفاق الدرب نحو النور الذي لا يقهره الظلام.
أخشى ان يقرأ كمال جنبلاط ما أكتب، وأخاف أن يهزأ منّي اذا ما اختصرت وجوده بالأحداث او التحوّلات أو الأمكنة أو في المواقف أو الأشخاص. وأخشى ايضاً أن يلومني اذا ما وجدني أعتقد أنّ ما يحصل الآن لم يحصل قبل الآن، من مجازر ومهالك وجبروت ووقاحة وادعاء. فالتاريخ الحديث والقديم مليء بخطايا الانسان وجرائمه، منذ أن كان على الارض شقيقان فقتل الاول الثاني ثم فسد الوجود بأسره وأتى الطوفان لينقذ من كلّ زوج اثنين، فيتجدّد الوجود فيما بعد آدم بما بعد الطوفان.
تجاوز كمال جنبلاط الأحداث والنزاعات والأشخاص، وكانت حياتنا محل تأمّله وألمه. وقد جسّد رغبته بالتخلّي والتحلّي والتجلّي عندما قال: «مولاي، أدر مرآة وجودي نحوك لكي لا يعود يبصرك أحد سواك». فهل يعود إلينا بعد أن عاد اليه؟
————–