- جورج عيسى
- المصدر: “النهار”
- 2 أيلول 2020 | 21:01

شنكر في بيروت، أيلول 2019 – “أ ب”
يستقبل لبنان، اليوم، مساعد وزير الخارجيّة الأميركيّ لشؤون الشرق الأوسط، دايفيد شنكر، بعد زيارة تاريخيّة أجراها الرئيس الفرنسيّ إيمّانويل ماكرون للبنان خلال اليومين الماضيين. كذلك، استقبل لبنان أواسط الشهر الماضي وكيل وزارة الخارجيّة للشؤون السياسيّة دايفد هيل الذي اجتمع مع القادة السياسيّين والمجتمع المدنيّ. بين المسؤولين الثلاثة الكثير ممّا يجمعهم، والقليل ممّا يفرّقهم. على الرغم من ذلك، هذا القليل قد يكون مهمّاً.
تنسّق الولايات المتّحدة وفرنسا لانتشال لبنان من أزمته الحاليّة التي راكمتها الائتلافات الحكوميّة المتعاقبة، والتي ازدادت حدّة في السنوات الأخيرة. تريد الدولتان إجراء تغيير جذريّ في السلوك السياسيّ للأحزاب اللبنانيّة بشكل يفتح الباب أمام إصلاحات جوهريّة في قطاعات استنزفت مداخيل اللبنانيّين.
خلال المؤتمر الصحافيّ الختاميّ الذي عقده ليل الثلثاء، لوّح الرئيس الفرنسيّ بفرض عقوبات في حال تمّت عرقلة الإصلاحات. وكان الأميركيّون يعدّون لائحة عقوبات خاصّة بهم على مسؤولين لبنانيّين بحسب ما تداولته الصحافة الأميركيّة. عند هذا الهامش، ينتهي التوافق الفرنسيّ-الأميركيّ حول لبنان، علماً أنّه هامش لا يُستهان به.
ماكرون و”حزب الله”
بعكس الأميركيّين، لا يريد ماكرون فصل “حزب الله” عن “الطبقة السياسيّة” بصفته حزباً مسلّحاً قادراً على إدارة اللعبة السياسيّة وليس فقط مجرّد لاعب ضمن مجموعة واسعة من اللاعبين اللبنانيّين. كذلك، يمثّل ماكرون الدولة شبه الوحيدة في الاتّحاد الأوروبّيّ التي لا تزال تميّز بين “جناح سياسيّ” للحزب و”جناح عسكريّ” صنّفه الرئيس الفرنسيّ أمس على أنّه “إرهابيّ”. وكان نائب الأمين العام للحزب الشيخ نعيم قاسم قد نفى سابقاً وجود هكذا تقسيم. تفادى ماكرون الثلثاء، ردّاً على سؤال صحافيّ، انتقاد الحزب، فقال إنّ الأخير مُنتخَب من قبل اللبنانيّين وإنّه لا يمتلك الصلاحيّة لنزع الشرعيّة عن حزب موجود في البرلمان.
لكنّ ماكرون نفسه كان دعا قبل زيارته لبنان إلى إجراء انتخابات نيابيّة مبكرة خلال ستّة أو 12 شهراً في حديث إلى مجلّة “بوليتيكو”. وأشارت المجلّة نفسها لاحقاً إلى تراجعه عن موقفه، مشدّدة على أنّ توقّعاته “اصطدمت بالواقع”. ويعدّ “حزب الله” قوّة أساسيّة في رفض الانتخابات المبكرة.
من جهة ثانية، وصف ماكرون نفسه بأنّه “براغماتيّ”، شارحاً أنّه لا يريد انتقاد الحزب لأنّ ذلك لا يحلّ المشكلة في لبنان، على الرغم من أنّه قد يلقى إشادات من اللبنانيّين الموجودين في فرنسا، كما قال. لكنّ لباريس اختلافاً جوهريّاً مع واشنطن حول موضوع النظرة إلى إيران ووكلائها في المنطقة. فالتعاون بين باريس وطهران اقتصاديّاً وأمنيّاً، بما فيه مع الحرس الثوريّ، كان قائماً منذ زمن ولا يزال مستمرّاً حتى اليوم. بالتالي، تندرج نظرة ماكرون تجاه “حزب الله” في هذا الإطار، قبل أيّ إطار آخر بما فيه “البراغماتيّة”. وهذا يُظهر بشكل جليّ مدى استعداد ماكرون للتعامل بمرونة مع “حزب الله” في لبنان، كما يتعامل معه في فرنسا.
أبعد من ذلك، انتقد بوبي غوش في شبكة “بلومبيرغ” توصيف ماكرون نفسه بأنّه “براغماتيّ”. وكتب ساخراً من سياسته البراغماتيّة في الاتّكال على الزعماء اللبنانيّين كي يجروا الإصلاحات ويجروا المحاسبة الشاملة: “لا يوجد شيء براغماتيّ في توقّع أن تصوّت الديوك الروميّة لعيد الشكر”.
وكان ماكرون قد أعلن أنّه إذا لم تتمّ الإصلاحات المرجوّة فسيتوجّه إلى المجتمع الدوليّ، قائلاً إنّه “لا يمكننا مساعدة لبنان”، كما سيتوجّه إلى الشعب اللبنانيّ لإخباره بأنّ مسؤوليه هم الذين أوصلوه إلى هذه الحالة. ويعلّق غوش على هذا التوجّه بسخرية أيضاً، متوقّعاً أن يردّ الشعب اللبنانيّ على الرئيس الفرنسيّ قائلاً: “أخبرنا شيئاً لا نعلمه أصلاً”.
“زلّة لسان”؟
في سياق الغموض الفرنسيّ الذي لا يُعرف ما إذا كان “بنّاء” أم لا، يصعب فصل زيارة شنكر اليوم عن الرغبة الأميركيّة في تذكير “حزب الله” بأنّه غير بعيد من الأنظار الأميركيّة، حتى بوجود التساهل الفرنسيّ. يكفي أنّه كان من المفترض إجراء زيارته إلى لبنان أواخر آب، قبل أن يؤجّلها إلى الثاني من أيلول، أي إلى ما بعد انتهاء جولة ماكرون. ويُعرف شنكر بموقفه المتشدّد إزاء “حزب الله”، ليس فقط بمقارنته مع الرئيس الفرنسيّ بل أيضاً مع السفير الأميركيّ السابق إلى لبنان دايفد هيل.
في زيارته الأخيرة، حثّ هيل اللبنانيّين على إجراء الإصلاحات المطلوبة قائلاً إنّ الولايات المتّحدة سبق أن ساعدت الحكومات التي كان يشارك “حزب الله” فيها. فُهم من هذا الكلام حينها أنّ وجود الحزب في الحكومة حاليّاً لن يشكّل عائقاً أمام الدعم الأميركيّ في حال تمّ تنفيذ إصلاحات جدّيّة. ناقضَ هذا الكلام ضمناً السياسات الأميركيّة الأخيرة التي هدفت إلى فرض عقوبات على الحزب كما إلى عزله داخليّاً. ليس واضحاً ما إذا كان كلام هيل في حينه زلّة لسان أو تعبيراً فعليّاً عن توجّه سياسيّ أميركيّ جديد إلى لبنان يضع الإصلاح في مرتبة أعلى من التضييق على الحزب. وهذا يطرح تساؤلاً آخر عمّا إذا كان مجيء شنكر إلى لبنان محاولة “تصحيح” لـ”زلّة اللسان” تلك.
في جميع الأحوال، ما قاله شنكر في التصريح الأخير إلى صحيفة “الشرق الأوسط” يظهر تصعيداً أميركيّاً على “حزب الله”. فقد اتّهم الحزبَ بأنّه غير مهتمّ سوى بـ”الاستمرار بالدفاع عن الإيرانيّين” وبأنّه “يقف في وجه الإصلاح”. وأضاف: “لكن مرّة جديدة أقول إنّ المبادئ هي التي تهمّنا في تشكيل الحكومات”.
و”المبادئ” قد تحمل اختلافاً بين المقاربتين الفرنسيّة والأميركيّة. فباريس تنظر إلى هذه المبادئ من الزاوية الإصلاحيّة، وقد تضيف عليها واشنطن زاوية منع أو عدم موافقة الحكومة على سياسات الحزب الداخليّة والأقليميّة.
بالرغم من كلّ ما سبق، يمكن أن تكون زيارة شنكر غير موجّهة مباشرة إلى السياسة الفرنسيّة في ما خصّ الحزب. ربّما اتّفق الطرفان على توزيع الأدوار حيث يُعطى الفرنسيّون فرصة جمع اللبنانيّين من دون أن يُحرَجوا في علاقتهم مع “حزب الله”، بينما يُترك الدور الصعب في هذا المجال إلى الأميركيّين. قد لا تكون واشنطن في واقع الصدام مع باريس حول ملفّ غير أساسيّ نسبيّاً كلبنان، فيما التوتّر الجوهريّ هو حول تمديد حظر السلاح على إيران وإطلاق “آليّة الزناد”. يضاف إلى كلّ ذلك أنّ الاهتمام الأساسيّ للإدارة الحاليّة يصبّ في الانتخابات الرئاسيّة. أمّا بعدها، فلكلّ حادث حديث.