أسعد قطّان
الأحد13/02/2022
Almodon.com

المُؤَسّسة الدينيّة تفضّل أن تبقى مستلقيةً في برجها العاجيّهل للدين مشكلة مع الموسيقى؟ إذا كان المقصود بالدين هو الدين الذي تمثّله المُؤَسّسة الدينيّة الرسميّة، والإسلاميّة الشيعيّة في لبنان تحديداً، فيبدو أنّ للدين مشكلة مع الموسيقى، ومع أن يظهر شيخ معمّم يعزف على البيانو ويقول كلاماً عن فيروز يقوله كلّ عشّاق فيروز من المحيط إلى الخليج مروراً بالصحارى المرتاحة إلى الشمس.
هل للدين مشكلة مع النساء؟ إذا كان المقصود بالدين هو الدين الذي تنطق باسمه المُؤَسّسة الدينيّة، والإسلاميّة الأزهريّة تحديداً، فيبدو أنّ للدين مشكلة عظيمة مع النساء. فالمرأة التي هي أمّ الحياة ورحمها، والمؤتمنة على حمايتها فيما الرجال يحتربون في الحرب ويخطّطون للحرب في زمن اللاحرب، هذه المرأة يمكنها أن تتحوّل إلى عامل إفساد أسريّ، ما يبرّر للرجل ضربها «محافظةً» على سلامة الأسرة.
ما شاء الله على هذا المنطق! حتّى في أزمنة الجاهليّة والتجهيل والعصور الوسطى، التي يُضرب المثل بظلاميّتها، لم نعثر في المصادر المكتوبة ولا في التراث المنقول بالمشافهة على ما يبزّ هذا «المنطق» تخلّفاً. بربّكم، هل هذا هو الإسلام المتسامح، دين الرحمة، الذي كان يحلم بعض شيوخه المعمّمين ودعاته المفوّهين قبل بضعة عقود بأن يكتسح أوروبا ويقضّ مضجع أمريكا؟ بمثل هذه الأفكار تريدون، يا سادة، أن تقنعوا ناس القرن الحادي والعشرين بأنّ الدين يتناسب مع كلّ العصور ويخاطب الناس جميعاً؟
طبعاً لا. فالدين الحقيقيّ من حيث هو دعوة إلى التراحم والتوادّ وإرساء لمنطق التعادل بين البشر على قاعدة أنّهم متساوون «مثل أسنان المشط» براء من هذه الخزعبلات. أين القضيّة إذاً؟ بيت القصيد، أوّلاً، هو سيكولوجيا السلطة والتسلّط التي تقترن بفكرة أنّ هناك مؤسّسةً دينيّةً تحرّم وتحلّل وتُعتبر مسؤولةً عن إقامة «حدّ» الدين. فكلّ من لم يتحرّك ويفكّر ويعمل ضمن هذا الحدّ، يجري إقصاؤه وشيطنته، وربّما تكفيره.
وبيت القصيد، ثانياً، هو وجود سلطة سياسيّة تتحالف مع المُؤَسّسة الدينيّة وتغازلها وتموّلها. لكنّها أيضاً تستغلّها وتركب عليها طمعاً في تدجين الناس وصولاً إلى حدّ قمعهم بوصفهم رعايا، لا مواطنين، الساسة لديهم مجرّد موظّفين.
وبيت القصيد، ثالثاً وأخيراً، هو أنّ هناك نصوصاً دينيّةً، توراةً وكتاباً مقدّساً وقرآناً كريماً، تنطوي على آيات إشكاليّة معناها الحرفيّ المباشر لا ينسجم مع كرامة الإنسان، وذلك كما أتاحت لنا نصوص مقدّسة أخرى في هذه الكتب ذاتها أن نتلمّسها ونتعمّق في فهمها. كيف السبيل إلى حلّ هذه المعضلة؟ أذكر أنّي طرحت، ذات يوم، هذا السؤال على أحد كبار العارفين في الإسلام، وهو يدين بكثير من مقاربته التفسيريّة للمنهج الصوفيّ. فقال ما مفاده أنّ المعنى الحقيقيّ للنصّ، إذا رصدنا فيه توتّرات وتناقضات، قائم في قلب الله عزّ وجلّ. فحريّ بنا أن نتّضع راجين الله أن يكشف لنا هذا المعنى في يوم من الأيّام. سحرني الجواب لأنّه يومئ بوضوح إلى أنّ الله هو مرجعيّة التفسير الأخيرة، وأنّ الكلمات محاولات، ولو ملهمة، كما كتب معلّمنا جورج خضر. لكنّ الجواب لم يقنعني على الرغم من أنّه أغواني. فطالما أنّنا نتعامل مع نصوص نستعين بخلايا دماغنا كي نفهمها، ثمّة عمليّة تأويليّة مرجعها العقل لا يمكننا التهرّب منها. لا بدّ، إذاً، من استنباط مقاربة تأويليّة جديدة للكتب المقدّسة تتيح اعتبار النصوص التي تسيء إلى الكرامة الإنسانيّة، كما نتلمّسها وندركها اليوم، نصوصاً غير ملزمة، حتّى إنّه يمكن اعتبارها تحيل إلى ذهنيّة ربّما كانت ذات مشروعيّة ما في الماضي، لكنّها باتت لا تنسجم مع منطلقاتنا العقليّة ومعطياتنا المجتمعيّة وحسّنا الأخلاقيّ في زمن ما بعد الحداثة.
لا شيء يوحي اليوم بأنّ المُؤَسّسة الدينيّة الرسميّة في العالم العربيّ، التي أناط بها الساسة مسؤوليّة التكلّم باسم الدين، راغبة في الانكباب على مثل هذه العمليّة الاجتهاديّة التأويليّة، بما تستوجبه من جرأة وطواعية عقليّة وانفتاح على المناهج العلميّة الحديثة. هناك مفكّرون ومفكّرات فرادى هنا وهناك يقومون بجهود عظيمة. لكنّ المُؤَسّسة الدينيّة تفضّل أن تبقى مستلقيةً في برجها العاجيّ، نائمةً نومة الموت، فيما كلّ شيء من حولها يجري، كما قال هيراقليط العظيم، والشرخ يتعمّق بين الناس والدين. حيال هذا الواقع المدقع، لا غرو أن يعتبر كثر أنّ الدين منظومة غبيّة رثّة لا حول لها ولا قوّة سوى استدعاء أزمنة غابرة متخلّفة. لعمري، إنّهم لا يلامون…