أفكار رفيق الحريري مثّلت إستراتيجية في وقت كانت فيه البلاد تفتقر إلى قادة يعتمدونها. كان بمثابة روائي فسّر للبنانيين كيفية المضي قدما.

غاريث سميث
العرب
https://alarab.co.uk/
13022020
فقط التاريخ من سيحكم على الحريري
في 14 فبراير 2005، كنتُ متجها من شمال العراق إلى بيروت. أثناء استراحتي في أربيل، لمحت شاشة تنقل خبرا ظننت أنه عن تفجير في العراق. ثم تعرّفت على المنطقة، إنها عين المريسة الموجودة على ساحل بيروت.
كان ذلك التفجير الذي استهدف رئيس الوزراء اللبناني الأسبق رفيق الحريري مع 21 شخصا أثناء مرور موكبه بالقرب من فندق سان جورج في بيروت، بعد وقت قصير من مغادرته البرلمان اللبناني.
كتبت نعي الحريري وأنا على متن الطائرة التي كانت تعبر صحراء العراق وسوريا ثم القرنة السوداء المغطاة بالثلوج.
كان الحريري بالنسبة لي من الفينيقيين العصريين. مثل أسلافه الذين كانوا يؤمنون بقوة التجارة.
ووفقا لأفكاره، إذا تمكّن اللبنانيون من النجاح في هذا المجال، سينسون الطائفية ويتغلّبون عليها بعد أن أشعلت حربا أهلية استمرت 15 عاما (وما زالت تحدد السياسة اللبنانية إلى اليوم).
مثّلت أفكار الحريري إستراتيجية في وقت كانت فيه البلاد تفتقر إلى قادة. كان الحريري بمثابة روائي فسّر للبنانيين كيفية المضيّ قُدما.
عندما قابلته، أخبرني أن اللبنانيين يتناولون الطعام ذاته ويحتفلون بجميع الأعياد الدينية. وقال “تكمن المشكلة في السياسيين وليس في الشعب”.
كان رفيق الحريري رجلا اجتماعيا مفعما بالطاقة. وكان متواضعا. طرحت عليه قضية حرمان الشعب من الواجهة البحرية في بيروت، وهو من الحقوق التي يجب أن يفرضها القانون. وأخبرته عن مشكلة تواجهها العديد من المباني العشوائية التي يمكن أن تهددها ظاهرة المد.
أخبرت الحريري أن “الحمام العسكري” في بيروت (النادي العسكري المركزي) كان شاطئا رمليا يمكن أن يزوره الجميع.
لم يصدّق ذلك. وقال إنه يتذكر تلك المنطقة من أيام طفولته، ولم تكن شاطئا رمليا. لذلك، أخذت معي ملصقا قديما يروّج للوجهة السياحية عندما كنت متّجها للقائه.
أظهر الملصق الواجهة البحرية بشاطئها الرملي قبل بناء الحمام العسكري. اعترف الحريري على الفور بأنه كان مخطئا وهو ما يعدّ نادرا في صفوف الزعماء السياسيين اللبنانيين. بعد بضعة أسابيع سمعت بأنه وضع الصورة في إطار وثبّتها على الحائط.
في مناسبة أخرى، كتبت عمودا في إحدى الصحف أقارن نكتتين عن الحريري لإظهار انخفاض شعبيته خلال فترة معيّنة. تُصوّر الأولى رئيس الوزراء اللبناني الأسبق وهو يسير على الكورنيش وسأله جنيّ عن أمنيته حتى يحققها له، فأجاب الحريري “لا، لا، ماذا يمكنني أن أفعل من أجلك؟”.
في الثانية، التقى الحريري بأحد أبناء بيروت. قال الرجل “أنا فقير ولا أستطيع دفع فواتيري”، مما فاجأ رئيس الوزراء. فتابع الرجل مصرا “زوجتي فقيرة أيضا… وأطفالي فقراء”. بدا الحريري قلقا وسأل “ماذا عن خدمك؟ هل هم فقراء أيضا”؟
اشتكى أحد مساعديه من أن إدراج مثل هذه النكات في الصحف يظهر عدم احترام لرئيس الوزراء، لكن الحريري استمتع بالقصة. لم يكن يعرف ما يقوله الناس عنه في وسائل النقل العامة، وأراد أن يطّلع على آرائهم. وكان هذا الأمر أكثر أهمية من كبريائه.
صوّر اللبنانيون الحريري بطريقة مبالغ فيها. لم يقتصر الأمر على تبادل النكات، بل نقلوا شائعات حول الأراضي والممتلكات التي جمعها، متخيلين مخالبه المالية في عدد من الأماكن التي لم تخطر على بال أحد.
في مقابلاتي مع الحريري لاحظت نمطا مميزا. كلما كانت الأسئلة أصعب، كانت إجابته أفضل. في المرة الأولى التي ذهبت فيها إلى لبنان، في يناير 1996، قابلت الحريري من أجل صياغة تقرير لإذاعة بي.بي.سي. عندما سألته عن رأيه في قناة المنار التلفزيونية التابعة لحزب الله، قال إن تلفزيونه لم يكن معدّلا لاستقبال تردداتها. كانت إجابة ذكية قدّمها للإذاعة في التوقيت المناسب.
قد يكون هذا المزيج من الدبلوماسية والآراء المباشرة السبب الذي جعل الحريري يكون محل ثقة في فترة الأزمات.
خلال عملية “عناقيد الغضب” الإسرائيلية سنة 1996 ومجزرة قانا، تعامل الحريري مع التطوّرات كرجل دولة. واعتمد رصانة لم تكن شائعة في السياسة اللبنانية. تحدث الحريري عن لبنان ولم يقتصر كلامه على أي طائفة أو حزب أو مصلحة معيّنة.
لا نستطيع أن نحدّد الكيفية التي سيحكم التاريخ بها على الحريري بعد. كان شخصية رئيسية في السياسة اللبنانية بعد الحرب. وكان مسؤولا ودبلوماسيا أكثر من أيّ شخص آخر. حققت سياساته الاقتصادية نجاحات ولكنها خلّفت العديد من الأعباء.
اليوم، وصل الدين العام إلى 78 مليار دولار، ويتساءل اللبنانيون عما إذا أنفقت الجهات المسؤولة هذه الأموال بحكمة. كان الفساد متفشيا ويفتقر الكثير من المزارعين إلى وسائل الريّ الأساسية إلى اليوم. وتعكس المشاكل التي يواجهها قطاع الكهرباء البنية التحتية الضعيفة.
عندما ذهبت لرؤية الحريري قبل انتقالي إلى إيران في ديسمبر 2003، تظاهر بالدهشة. قال “أنت صحافي. لماذا تغادر لبنان؟ تستطيع أن تقضي عشر دقائق على الهاتف أو تشاهد القنوات الفضائية لمعرفة ما يحدث في أي مكان في العالم من هنا. في إيران، لن تعرف ما يجري في المنزل المجاور وإن كان بعد عشر سنوات”.
كاتب في العرب ويكلي