
هيفاء زنكنة
Jan 09, 2018
القدس العربي
لتطابق اللحظة التاريخية المواتية مع الفعل الفردي، علاقة كبيرة بصناعة الايقونة ـ الرمز أو دفنها. أو هذا على الأقل، ما جعل غيفارا، يتحدى الموت، كمناضل أولا ورمزا حيا للأجيال المقبلة ثانيا، متجاوزا بشبابه الدائم وقوة تحريضه على الثورة، مفهوم الأيقونة كنُصبٍ جامد. وإذا كان غيفارا، وكاسترو بدرجة اقل (ربما لأنه بقي على قيد الحياة) قد نجحا باحتلال مركز متميز في قائمة ايقونات الشعوب لسنوات طويلة، بسبب محدودية الانتشار الإعلامي التقليدي، فان سرعة انتشار الاخبار ونقل الاحداث عبر مواقع التواصل الاجتماعي (الفيسبوك، تويتر، يوتيوب… الخ) جعل من خلق وتصنيع وتفكيك الايقونات (كما هي الاخبار) مسألة آنية، وليدة اللحظة، إلى حد كبير، وحاملة لإيجابيات وسلبيات الولادة السريعة واختلاطها بالعواطف الجياشة والاجندات السياسية والاعلامية.
تقدم لنا تغطية مقاومة القرار الأمريكي بجعل القدس عاصمة للكيان الصهيوني، فلسطينيا وعربيا ودوليا، جوانب إيجابية لكيفية توظيف نقل الاخبار والاحداث ساعة بساعة، وبالتالي البناء التراكمي للحراك الشعبي بين الفلسطينيين، أنفسهم، من جهة، والتواصل مع بقية الشعوب، من جهة أخرى. حيث تم نشر صور الاعتقالات والاغتيالات التي طالت المواطنين، المرة تلو المرة، لتصل اقصى انحاء الكرة الأرضية، فلم يعد هناك متسع لادعاء عدم المعرفة بطبيعة المُستعمر الاستيطاني. فما تجاهلته الصحافة خشية الحظر الصهيوني ـ الأمريكي وحتى الرسمي العربي المتواطئ معه، بثته مواقع التواصل بكل تفاصيله. فصارت للمظاهرات الفلسطينية ومواجهتها للمستوطن الصهيوني، وجوهها وصورها المعروفة حول العالم. تدريجيا، تحولت وجوه المقاومين او لحظات المواجهة بين القوة العسكرية الغاشمة، والجسد الفلسطيني المُسلح بإيمانه وحجارته، إلى ايقونات، تؤرخ اللحظة وترمز إلى ما هو أبعد من اللحظة.
لحظة اعتقال فوزي الجنيدي (16 عاما) ابن مدينة الخليل. اقتياده، معصوب العينين، محاطا بجدار من 23 جنديا، مدججين بالسلاح، بعد ضربه. أصبحت اللحظة، صورة لا تُنسى لذعر المُستعمِر وهمجيته. انها صورة المُستعمِر، وليس الفلسطيني، محاصرا. في ذات الوقت، الذي انتشرت فيه صور الصبية عهد التميمي وأمها ونور ابنة عمها. تذكرني صورة عهد، في طفولتها، وهي تشترك مع عائلتها وأهل قريتها، في المظاهرات ضد المحتل، بقصة للأسيرة المحررة ايمان غزاوي، تقول فيها «يا إلهي! كم ينضج الاطفال في بلادي سريعا».
بات حضور عهد، على صفحات التواصل الاجتماعي، خاصة، يوميا. بمرور الأيام تحولت الصبية بشعرها الكث، المنكوش، المُحتضن لملامح طفولية جميلة، إلى أيقونة للشباب المقاوم. تبناها العالم وقبل بها. صارت صورة ولوحة وملصقا جداريا وراية يرفعها المتظاهرون. تدريجيا، أيضا، أصبحت وسما عابرا للفرد، «هاشتاغ»، تسكنه أسيرات فلسطينيات، جريحات، مغيّبات في سجون الاحتلال، لم يحظين بمساحة القبول التي حظيت بها عهد. لأن « السياسيين وبعض المؤسسات الحقوقية، والمنظمات الدولية، وغالبية من وسائل الإعلام والنشطاء والمغردين يتجنبون الحديث عن الأسرى الجرحى من منفذي العمليات خوفا من اتهامهم «بالتحريض» أو «دعم الإرهاب». كتبت الصحافية الفلسطينية ميرفت صادق، المشاركة في حملة داعية إلى التنبيه إلى وضع الأسيرات الجريحات. يلخص تقرير مشترك لنادي الأسير الفلسطيني ومؤسسة الضمير لرعاية الأسرى، حال الأسيرات: لما البكري (17 عاما) اعتقلت مصابة بثلاث رصاصات في قدميها، عبلة العدم (46 عاما وأم لتسعة أبناء) اعتقلت، مصابة في الرأس والوجه والكتف، وفقدت النظر في عينها اليمنى، شروق دويات (20 عاما) اعتقلت بعد إصابتها برصاص في الكتف، أدى إلى انقطاع شريان رئيسي، جيهان حشيمة (38 عاما) اعتقلت بعد إصابتها بعدّة رصاصات في قدمها اليسرى، أمل طقاطقة (24 عاما) اعتقلت بعد إصابتها بالرصاص في الفخذ والصدر والخصر، وأقدمت مجندة اسرائيلية على ضربها في صدرها بكعب البندقية وهي تنزف، مما تسبب بكسور في قفصها الصدري. مرح باكير (18 عاما) اعتقلت بعد إصابتها بـ 13 رصاصة في يدها اليسرى، نورهان عواد (18 عاما) اعتقلت بعد أصابتها بأربع رصاصات في الفخذ الأيسر والبطن، وحلوة حمامرة (26 عاماً وأم لطفلة) اعتقلت مصابة بجروح خطيرة أدت إلى استئصال جزء من الكبد ومن البنكرياس والطحال والأمعاء.
تسللت الأسيرة المقدسية إسراءـ جعابيص (32 عاما أم لطفل) إلى الضمائر الحية، بوجهها المشوه حرقا، ويديها بأصابعها المبتورة، وخطواتها مقيدة اليدين والساقين، سائرة مرفوعة الرأس، محاطة بجنود الاحتلال، باعتداد من يتغلب على الألم في كل خطوة. اعتقلت إسراء بعد إطلاق النار على سيارتها، عام 2005، أثناء مرورها عبر حاجز «الزعيم» الاحتلالي المؤدي إلى القدس المحتلة مما أدى إلى انفجارها، واصابتها بحروق شديدة، شوهت وجهها، ورأسها، وصدرها. حكم عليها الاحتلال بالسجن لمدة 11 عاما. إسراء بحاجة ماسة للعلاج الذي يمتنع الاحتلال عن توفيره لها داخل المعتقل. تقول عائلتها إنها: «بحاجة لثماني عمليات عاجلة في عينيها ووجهها ولفصل أذنيها الملتصقتين برأسها، ولعلاج إصابات بالغة في يديها، بينما يرفض الاحتلال تحويلها للعلاج».
تعاني اسراء، بالإضافة إلى آلامها الجسدية المستمرة، من آلام نفسية جراء حرمانها من رؤية ابنها الوحيد معتصم، فقد منعه الاحتلال، في آخر زيارة، من رؤيتها برفقه خالته بحجة أنه لا يحمل الهوية المقدسية، التي سحبها منه بعد اعتقال والدته. معتصم لم يكمل عامه العاشر بعد، لكنه يعيش يوميات الاحتلال بأبشع صورها، صورة الحرمان من الأم وهي لا تزال حية. ما الذي سيحمله المستقبل لمعتصم، بطفولته الفلسطينية، في وضع كهذا؟
من إسراء إلى عهد، على مدى عقود من مقاومة الاحتلال، تبقى وجوه الاسيرات الفلسطينيات، مهما حاول المحتل تشويهها، أيقونات ذلك الجمال النادر، جمال المقاومة والصمود والاعتزاز بالكرامة الإنسانية.