الرئيسية / home slide / نموذج المستعمرة القائم في لبنان

نموذج المستعمرة القائم في لبنان

وسام سعادة
القدس العربي
28012023

الدولة اللبنانية الحالية هي الدولة التي استجمعت الوصاية السورية أشلاءها بعد الحرب، من الدولة السابقة عليها، وأعادت تركيبها على هواها.
أن تكون هذه الدولة شديدة المناوأة لشروط العيش الحرّ الكريم للعدد الأكبر من السكان في هذا البلد، ومبدّدة للموارد، وسادّة للآفاق، ومعدومة السيادة، وركيكة المؤسسات، فهذا لا يعني أنّها غير موجودة.
ضحالتها لا تنفي وجودها، بل تخبر عن أي شكل من الدولة هي. فهي مدججة بجهاز ضخم. وحجمها كبير قياساً على المجتمع. والمجتمع حاضر فيها بمعية التحاصص بين الحزبيات والحيثيات ذات النفوذ، بالمعيارين الطائفي والمناطقي. لكنها، وللسبب نفسه، أبعد من دولة ما قبل الحرب عن مفهوم الدولة – الأمة. رغم كثرة التشدّق بالانصهار الوطني والميثاقية في دولة ما بعد الطائف. ورغم أن القاعدة الأهلية «للمنخرطين» في الدولة و«ملتهميها» قد توسّعت بشكل نوعي عمّا كانت عليه الحال في دولة ما قبل الحرب.
عندما اضطرت الوصاية السورية للانسحاب في إثر القرار 1559 ومن بعده اغتيال الرئيس رفيق الحريري، جرى اجلاء القطاعات العسكرية. لكن الوصاية «نسيت» أن تأخذ دولتها في لبنان معها.
استمرت هذه كدولة قائمة بشرط الوصاية عليها. وساءت حالها في الوقت عينه. فهي لم تستطع إبدال وصيّ بوصيّ. توجب عليها مكابدة أهوال الوصايات المتعددة، العشوائية والمتضاربة. ازدهرت شبكة من الإشرافات الإقليمية والدولية عليها. تنوّع المشرفون بين ممتنين ومتقاطعين ومتشجنين ومناهضين لصعود المتغلّب الفئوي المسلّح والمرتبط عضويّاً بإيران في لبنان، وانطلاقاً منه.
لكن المتغلّب، وبحكم كونه كذلك، لم يفلح في وراثة ما تنطّح إليه من دور الوصيّ. والوصايات المتعددة المستويات والمشارب ما كان مقدّراً لها النهوض هي الأخرى بدور الوصي. ولأجل ذلك، فإن أوّل الشغور في مناصب هذه الدولة مثّله الشغور في منصب الوصيّ، عامل الدولة المجاورة عليها. كل شغور وفراغ وتعطّل في المؤسسات الدستورية لهذه الدولة إن هو إلا انعكاس للشغور في «المنصب» الذي كان يتولاه غازي كنعان أو رستم غزالة.
مع بعثرة الأمريكيين لنظام صدام حسين في العراق، وانفجار الأوضاع في سوريا، ثورة وحرباً، اتسع النفوذ الإيراني في لبنان، وهو البلد الذي نجحت فيه مبكراً عملية الاقتباس من نموذج الحرس الثوري الإيراني فيه. بالتوازي، جرى الانتقال من نموذج التحكم السوري بالدولة التي استجمعتها الوصاية نفسها في لبنان من أشلاء الدولة السابقة فيه، التحكم بها من خلال تشغيلها، وتوزيع «الإقطاعات» والمراتب فيها، وترطيب أجواء هذا مع ذاك، وتحريض ذاك على هذا، إلى التحكم بها لا من خلال التشغيل، بل من خلال التعطيل. عرفت دولة ما بعد الانسحاب السوري في لبنان فترات شغور رئاسي، ونحن الآن في الثالثة، كما عرفت فترات فراغ حكومي، ومن ميزات يومنا هذا اقتران الشغور الرئاسي بالفراغ الحكومي، فالحكومة مستقيلة بحكم إجراء انتخابات نيابية في العام الماضي، والحكومة التي يفترض أن تبصر النور بعد الانتخابات النيابية لتعكس نتائجها لم يكن مقيّداً لها أن تولد من الأساس، والمجلس النيابي الذي لم ينتخب رئيس جمهورية حتى الآن لا يحق له بموجب الدستور مزاولة أي عمل آخر قبل الشروع في هذا الانتخاب… وحلّها! الوصي السوري كان يشغّل هذه الآلة. التحكم «الممانعاتي» بالبلد بعد رحيل الوصي السوري يعتمد أكثر على التعطيل المتكرر إنما الذي يزداد وطأة مرة في تلو مرة، ولو أنه لا «يصنع» التعطيل لوحده، بل أنه أول المساهمين في هذا التضافر. والحصيلة أن مؤسسات الدولة الدستورية هي التي تزداد تحللا، في مقابل مناعة نسبية ومتفاوتة لأجهزة الدولة، العسكرية والأمنية، من التحلل.

أن تكون الدولة اللبنانية الحالية شديدة المناوأة لشروط العيش الحرّ الكريم للعدد الأكبر من السكان في هذا البلد، ومبدّدة للموارد، وسادّة للآفاق، ومعدومة السيادة، وركيكة المؤسسات، فهذا لا يعني أنّها غير موجودة

واليوم، تظهر هذه الدولة وقد رسا نظامها الدستوري الذي يعتمد مبدأ الفصل بين السلطات على سلطة تنفيذية شاغرة وفارغة، وسلطة تشريعية تعطل نفسها بنفسها. فما دامت لا تشرع في انتخاب رئيس لا يحق لها التشريع. وسلطة قضائية يبدو أنه أصابها مسّ وتحوّلت أسماء فيها إلى ما يشبه «قادة محاور». هذا في ظل الاصطدام باستحالتين. استحالة أن يكون بمقدور هكذا دولة أن تصل الى الحد الأدنى من العدالة في قضية تفجير مرفأ بيروت. واستحالة أن يكون بمقدور هكذا دولة كذلك الأمر أن تسوي هذا الملف كما لو أن شيئاً لم يكن. فهذا الملف مؤشر الى التناقض الهائل بين أي مقومات للعقد الاجتماعي وبين الدولة القائمة والموسومة بأنها من «مخلفات زمن الوصاية». ويقارن ذلك بالأمر نفسه في موضوع ودائع الناس المبددة في المصارف. لا أفق لاسترجاعها، ومن الوهم إمكانية تجاوز هذا التبديد دون مترتبات تتجاوز المال الى الرابطة نفسها التي تقيم مجتمعاً.
كل هذا يجعل لبنان يبدو أكثر فأكثر اليوم على أنه أشبه ما يكون بمستعمرة. مستعمرة مختلطة. لا تعرف متى يتهافت المستعمرون المختلفون اليها، ومتى يديرون الظهر لها ولدهاليزها. والأكثر صدعاً للأذهان حدوث الأمرين في وقت واحد.
المستقر في لبنان اليوم هو شكله كمستعمرة. وهذا يمنح الانهيار الاقتصادي والسياسي طابع الانهيار «الممسوك» حتى الآن. حتى لو أن الانهيار سيخرج «عن رشده» في آخر الأمر، فمن الوهم المحض إمكانية الحفاظ على السلم الأهلي باستئصال كل أثر للسلم الاجتماعي.
مع ذلك، ليس ثمة ما على ما يظهر، من طرح قادر حتى الآن على صوغ المسألة اللبنانية كمسألة تحرر وطني في المقام الأول. تحرر وطني متعدد الأبعاد. شرطه تشخيص الشكل المحدد والهجين جداً للمستعمرة التي بات اللبنانيون محبوسين فيها، أو ينزعون للهروب منها، والتي تتعقبهم قوالبها الذهنية والعاطفية حيثما حلوا.
يبقى أنه ثمة معادلة بالمستطاع طرحها. وهي أن البلد يعيش منذ عقدين ما هو أقرب إلى التوازن داخله ومن ضمن جهاز دولته بين النفوذين الأمريكي والإيراني.
في الوقت عينه، هذا التوازن بين النفوذين الأمريكي ـ الغربي والإيراني، يحصل في ظل انعدام توازن بين الموالين لإيران بين اللبنانيين وبين الموالين منهم لأمريكا و«الغرب» و«عرب الاعتدال».
هذه المعادلة المزدوجة أو المركبة هي الأكثر استقراراً. بمعنى أنه لا يظهر أن ثمة ما يتيح تجاوزها أو حتى إضعافها في الأمد المنظور. ولأجل ذلك يبقى البلد بلا أمد، مستعمرة تارة مذكورة تارة منسية.
ويستفحل الأمر بعد أكثر لأنه من الوهم أيضاً تجسيد مقولة «تحييد» لبنان بإزاء صراع أمريكي إيراني قائم فيه ليس على ترسيم خط تماس بين هذا المعسكر وذاك، بل على التشارك في الدولة، الدولة التي أعادت الوصاية السورية تركيبها في لبنان وبقيت من بعدها.
بمعنى آخر، هذه الدولة لا يمكن إصلاحها. يمكن فقط إعادة تركيبها. أي كما فعل الوصي السوري ذات يوم.
لكن أيضاً، لا يمكن إعادة تركيبها وهي لا تزال تتشكل كبنية قائمة بذاتها، كبنية تعيش تحللها كحياة ثانية. الانقسامات الحالية في المشهد القضائي لا تعني أبداً أنها دولة على شفير الانشطار إذا ما عنينا بالانشطار افراز أجسام متقابلة. اللزوجة تقيها الانشطار. المصادر التي لا تزال تمدها بالوحدة الجهازية – ومن خلال حضورها ككونفدرالية أجهزة ومرافق في الوقت نفسه – مطواعة للمعادلة المركبة الأمريكية الإيرانية في لبنان، هي مصادر لا تنضب بنفس وتيرة إفلاس الخزينة.

كاتب من لبنان