روزيت فاضل
المصدر: “النهار” 19 تشرين الثاني 2017 | 16:09
في أيامنا هذه، يتذكر بعض اللبنانيين المطران غريغوار حداد، الذي حررنا من الايمان القائم على الخوف من الله، وبنى في نفوسنا علاقة سواسية مع المسيح والله على قاعدة المحبة.
في معرض الكتاب العربي في مجمع البيال، محاولة جديدة للغوص في عالم غريغوار حداد، الانسان الكوني و “العلماني الشامل” الثائر على ذاته والتواق الى قلب مقاييس النمط الكلاسيكي للحياة المبنية على موروثات تقليدية … لا تليق بتطلعات هذا المطران “الإصلاحي”. ولمعرفة المزيد عن مؤلفه، كان لـ “النهار” حديث مع الدكتور علي خليفة عن كتابه الجديد ” المطران والشيطان”.
“العلمانية الشاملة”
يقول خليفة إن “الكتاب يقدم، فضلاً عن عناصر السيرة، مقابلة حصرية كاملة مع المطران”، مشيراً الى “أنني أنشرها للمرة الأولى، بعدما حاورته عام 2005، وكانت لي مقابلة مشابهة أجريتها في حينه مع السيد هاني فحص”.ويضيف:” وقد اشترك كل من المطران والسيد في مقاربة متكاملة من وجهة نظر الدينَين، لمسألة التعليم الديني ومعارضة مكانه في المدرسة وتفصيل الرؤيا والعناصر لمشروع تربوي متكامل للبنان يناهض تضمين التربية بعدًا عقائديًا، ويدعو إلى علاقة متجددة للثقافة بالدين كعامل اجتماعي”.
ويشدد على “النظر إلى مشروع خدمة المجتمع لا كمكوّن مضاف إضافةً شكليةً إلى العملية التربوية، بل كي يبقى الإنسان هو القضية، “كل إنسانٍ وكل الإنسان” على هوى ما كان المطران غريغوار حداد يستسيغ القول، فضلاً عن توثيق كامل لنشاطات عن مفهوم المواطنيّة في ضوء أفكار “العلمانية الشاملة” ومقتضياتها، خلال فترة تنسيقي لأعمال لجنة التربية في تيار المجتمع المدني الذي أسسه غريغوار حداد”.
ويخلص الى اعتبار أن “جميع هذه النقاط يمكن أن تشكل شبكة أمان اجتماعي وخبرات عابرة للاصطفافات الطائفية ونواةً حبذا لو نستعيدها اليوم لتحفيز التطوير التربوي”.
الإنسان قيمة مطلقة
ويتوقف خليفة عند عنوان كتابه “المطران والشيطان، قراءات ومحطات في تجربة غريغوار حداد”، مشيراً الى انه ” قد يرتاب بالفعل للوهلة الأولى من يقرأ عنوان هذا الكتاب الذي يجمع بين اثنين نفترض التفريق بينهما في الغالب: المطران والشيطان، بما هما على طرفي نقيض… ولكن دين المؤسسات (أكان المؤسسة الدينية المسيحية أم المؤسسة الدينية الإسلامية) يتعمد الجمع بينهما”.
ويتساءل: “ألم يُنْقذ الخوري سمعان الشيطان المطروح على قارعة الطريق ويؤويه في بيته واستمر في الوقت عينه في لعنه كل يومٍ في صلواته وعظاته والتضرّع إلى الصليب لينجّيه منه، كما يكتب جبران خليل جبران؟”، مضيفاً أنه “كذلك فعل شيخ الأزهر إزاء وقوف الشيطان بين يديه طالبًا إشهار إسلامه، فثناه الشيخ عن طلبه لئلا يستتبع ذلك سقوط المعوذات وأكثر الآيات القرآنية، كما يكتب توفيق الحكيم”.
ويرى خليفة ان “لقاء المطران والشيطان، على رغم كونه مفتعلاً، إلا أنه ضروري للإضاءة على محطات في سيرة غريغوار حداد المثيرة للجدل”. ويلفت الى ان “المطران حداد كان همه الإنسان كقيمة مطلقة وتجربته الروحية، وليس دين المؤسسة”، مشيراً الى ان “المؤسسة معنية بالمعتقد أكثر منه بالإيمان، كما يقول بشكل بديع الفضل شلق… ما جعل المطران غريغوار حداد، على خلاف كل رجال الدين، لا يبرم أي عقد مع الشيطان ليسالمه سرًّا، ضنًا بوجوده وبمصالحه، ويحاربه علنا توسلاً لشرعية لم يطلبها يومًا”.
ومن هو الشيطان إذاً؟
حاول خليفة تحديد من هو الشيطان في سيرة المطران حداد، مشيراً الى أنها “شياطين عديدة قارعها غريغوار حداد، أكانت شياطين اللاهوت، أم شياطين البطريركية، أم شياطين الطوائف، أم شياطين الفقر، أم شياطين السياسة، أم حتى شياطين الفكر وشياطين اللغة بما تحمله من التباسات وشياطين التعليم الديني في المدارس… وغيرها من المواضيع التي أضمّنها في الكتاب”…
ورداً على سؤال عن كيفية عرض واقع “خلع غريغوار حديد المظهر ولبس الجوهر” في كتابه، أكد خليفة أنه “يمكن اعتبار غريغوار حداد في بحثه الديني الجذري أحد القلائل من بين الذين تركوا أثرًا في الفكر العربي الخاص بفلسفة الدين”. واعتبر أنه في هذا الصدد، يظهر الكتاب كيف تجرأ المطران حداد على “المساس بالمظهر، بالمقدس الاجتماعي، وأسقط الخوف من حكم السلطة الدينية المتوعد بالخروج من المجتمع الديني المسيحي”. وقال: “جاهر المطران بتحرير المسيح بما هو المطلق في الكيان من السلطة الكنسية التي تخيف بدل أن تحب وتخدم وتشهد للحق”.
المسيحية الحقة
وفي المقابل، عرض خليفة للجوهر “بالنسبة الى المطران حداد، هو المسيحية الحقة، لا الطقوس ولا الكنائس المتعددة”. وقال:”جوهر المسيحية هو الذي كتبه المطران غريغوار حداد وشهد له ومارسه. فكان يرفض مثلاً التعميد والتكليل، مما ولّد مشاكلات بينه وبين بقية الإكليروس المتعلقين بالمظهر، إضافة إلى انه صدم الخوارنة، إذ قال لهم يجب ألا تأخذوا المال مقابل التعميد والجناز، لأنها أعمال مجانية”.
واعتبر خليفة أن “حداد حصر مدخولهم بالصندوق الموحد، هم الذين يُفترض أن يسيروا على طريق المسيح في الفقر ويهبوا أنفسهم للخدمة من دون مقابل”، مشيراً الى انه “لم يلبس كالمطران، لم يقبل تقبيل يده، لم يضع خاتم المطرانية في إصبعه، لم يقتنِ سيارة ليتنقل بها بل كان يستقل سيارة أجرة أو يأخذ أوتوستوب في تنقلاته، ولم يقم أي اعتبار لبرجوازيي الطائفة ولم يفتح لهم صدور الملتقيات مما ألّبهم بلا شك ضدّه واستنفروا البطريركية بوجهه”.
وأضاف:” واستمر يقول، من دون انقطاع، إن المطران راع ٍوهو خادم الناس. فكان مكتبه مفتوحًا في المطرانية على الدوام لعموم الناس، يستقبل كل واحد منهم بنفسه ويستمع إلى كل واحد، بلا أي تذمّر. وآثر التنمية والخدمة الاجتماعية على الكهنوت والتنسك. هذا هو الجوهر الذي أعرض عنه الكثيرون من رجال الدين والمؤسسة الدينية بأسرها… بالمناسبة ذلك ليس حكرًا فقط على الإكليروس المسيحيين والمؤسسة الدينية المسيحية، بل أيضًا على المؤسسات الدينية كافة”.و قال:” الإسلام اليوم هو الآخر مختزل بمجموعة ممارسات وشعائر تنأى غالبًا عن الجوهر ويتم من خلالها فحص إيمان المسلمين من خلال عدد صلواتهم وأيام صيامهم، مبتعدين بذلك عن الجوهر المتمثل بعيش قيم الصدق والأخلاق والعمل الصالح”.
الإصلاح في فكر المطران حداد
وعرض خليفة للسبب “الذي اتهم المطران غريغوار حداد بالانحراف اللاهوتي”، مشيراً الى أن “الإصلاح في فكر المطران يرجع في أحد جذوره إلى كنيسة ولاهوت التحرير في أميركا اللاتينية وهي التجربة الثورية التي ينطلق منها البابا فرنسيس اليوم على مستوى الكنيسة الكاثوليكية، مغلّبًا التجارب الروحية للأفراد والشعوب على دين المؤسسة وطقوسه ومحاولاً تحرير الكنيسة من الفساد والسلطة والمصالح”.
لكن من الواضح،ووفقاً له، “أن ما خاض به غريغوار حداد في اللاهوت كان على مستوى غير معهود من الجرأة في زمانه ومكانه، وهو الساعي إلى تنقية الإيمان من ممارسات المؤسسة الكنسية، التي شرعت ما تقوم به تحت غطاء من القداسة الاجتماعية”.و قال:”التقت مجموع المصالح الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والدينية التي مسها مشروع غريغوار حداد التحرري في المجتمع كما في الاقتصاد والسياسة والدين… التقت ضده وكانت مقالاته باب الانقضاض عليه من قبل المرجعيات المسيحية بشكل عام واعتبار بطريرك الروم الكاثوليك آنذاك مكسيموس الخامس حكيم أن كتابات المطران غريغوار حداد في مجلة “آفاق” تتناقض مع العقيدة الكاثوليكية… طبعًا خواتيم القضية معروفة لجهة عدم ثبوت ما يبرر أي حكم من قبل السينودس، ولكن تمّ استغلال الدعوى المقامة بوجهه والانتقام منه بشكل متعسف ينم عن حقد دفين وإرادة جامحة لمحاربة مشروعه”…
وخلص الى أنه “في هذه القضية بالذات، يظهر كتابي بعدًا ظل خافيًا من خلال الإضاءة على ما تحمله اللغة من التباسات قد تصطنع قضايا باطلة”، مشيراً الى انه “حيث كان غريغوار حداد ضليعًا بالعربية بشكل يفوق من اطلع على كتاباته وأصدر الأحكام بشأنها عن سوء تقدير لغوي، مضافٍ إلى سوء في النية طبعًا”…
Rosette.fadel@annahar.com.lb
*يوقع الدكتور علي خليفة كتاب “المطران والشيطان” الساعة 6،00 مساء الأحد 3 كانون الأول في معرض الكتاب – البيال في جناح شركة المطبوعات للتوزيع والنشر.