30-03-2021 | 00:00 المصدر: النهار
أنطوان مسرّە

مَن هم المثقفون في لبنان؟
نعيش في عالم حيث السلطات الأربع: سلطات السياسة والمال والإعلام والانتليجنسيا، التي كانت ماضيًا مُتمايزة وتُراقب بعضها أصبحت اليوم مجتمعة في كتلة واحدة! يُسيطر سياسيون يمتلكون الرأسمال وشبكات إعلام ويوظفون او يستتبعون خبراء ومستشارين من الأوساط الجامعية والبحثية والثقافية! يجري البحث تاليًا اليوم في العالم عن سلطة خامسة مواطنية او المجتمع المدني الذي، هو ايضًا، لا يتمتع بالضرورة بالاستقلالية والقدرة على المراقبة. هل ولى زمن عصر التنوير في أوروبا في القرن الثامن عشر حيث يُقال ان هذا العصر هو ثمرة المثقفين والفلاسفة، او هل أصبح #المثقفون في منظومة معولمة جزءًا من شبكة مصالح على حساب الشعب الضائع وخارج لعبة السياسة؟ تُساهم انحرافات الديموقراطية وانتشار وسائل التواصل الحديثة وامتداد ديموقراطية التعليم في حمل كل فرد على اعتبار ذاته قادرًا على التعبير عن رأي موثوق به حول مختلف القضايا! مَن المستفيد؟ سياسيون محترفون يبنون استراتيجيتهم على الشعبوية وإثارة غرائز مكبوتة لدى مقترعين – ولا نقول ناخبين – هم غالبًا زبائن ومخدوعون. من هم المثقفون في لبنان اليوم وماذا يفعلون؟ يجب دائمًا “الحذر من المثقفين الصرف purs”، كما يقول كمال جنبلاط في كتابه – الوصية. يعني بـ”الصرف” ليس صفاء الضمير، بل الصفاء الكيميائي لدى مُثقفين بلا خبرة “لم يتجسّد فكرهم بفعل” (Kamal Joumblatt, Pour le Liban, 226 p., p. 17 وتعريب للكتاب). قد يكون مُثقفون، وكثمرة جهد وحسن نيّة، ضحية خطاب ايديولوجي في التعبئة السياسية. يُدرك ذلك تمامًا سياسيون شعبويّون، بخاصة بعد تراجع الاعلام المهني وانتشار وسائل التواصل الاجتماعي. يقول لينين: “المثقفون هم الأكثر قدرة على الخيانة لانهم الأكثر قدرة على تبريرها”. أمضيت أكثر من نصف قرن في مساري المهني ساعيًا في تصويب تلوث مفاهيم راقية حول الديموقراطية صاغها كبار الاباء المؤسسين. أعتبر ان من الضروري في سبيل استعادة “دولة” (كذا) لبنان الكبير العودة الى “مقاضاة العقل اللبناني” على نمط جورج نقاش procès de l’intelligence libanaise في محاضرته في الندوة اللبنانية في 12/6/1950. في لبنان خمسة أنواع من المثقفين: 1. المثقفون المتكلّمون rhétoriqueurs: انهم يحيدون الكلام وإثارة الانتباه. لكن بعد كلامهم تتساءل: ماذا يبقى من الكلام المنمّق؟ انتج سوق البحث العلمي أكاديميين يجيدون بدقة فائقة تطبيق مناهج البحث في جداول ورسوم وبيانات وأرقام… بحسب الشروط التي تحدّدها المؤسسات. اين الفائدة، التجدّد، الفاعلية؟ لا تُطرح هذه الأسئلة! يُسيء البحث البيروقراطي الى البحث وأهدافه. 2. المثقفون التجار وغبّ الطلب: انهم ينفذون مطلبًا بحسب الزبون. يشمل هؤلاء قانونيين – ولا أقول حقوقيين – حيث القانون هو مجرد تقنية في البرهان art argumentaire وليس علمًا معياريًا science normative. انهم يساهمون في تلوّث العقول وفقدان البوصلة في الحياة العامة. 3. المثقفون من دون خبرة: بما انهم لا يمتلكون افكارًا جديدة او مجدّدة، يمارسون التطريز حول الآراء المتداولة في السوق: “طائفية” (ميشال شيحا يستعمل العبارة بين مزدوجين!)، دستور، وثيقة الوفاق الوطني – الطائف، دولة مدنية، فيديرالية، لامركزية… يتوجب على من يعدّ رسالة او أطروحة جامعية او بحثًا ان يشاهد ويعيش اختبارًا وواقعًا وان يلتزم في مصلحة عامة. هل الإنتاج نظري كما يقال ام تجريدي؟ يقول Einstein: “لا شيء اكثر واقعية من نظرية جيّدة”. 4. المثقفون اليعقوبيون jacobins: لا يجوز بعد اليوم التسامح مع مُثقفين لبنانيين يصبّون غيظهم على “النظام”، و”الطائفية” ووثيقة الوفاق الوطني… ويشكّكون من دون تمييز في مجمل الخبرة اللبنانية في الإدارة الديموقراطية للتعددية الدينية والثقافية، ومن دون الغوص اطلاقًا في التراث العربي والإسلامي بالذات حول هذه الإدارة قبل امتداد ايديولوجيات قومية انصهارية، أي بالحديد والنار. بعد تفكّك الاتحاد السوفياتي وانهيار يوغوسلافيا السابقة وخيبات قوميات انصهارية وبروز هويات قاتلة في العالم والمنطقة في عالم اليوم لم يتغيّر شيء في أعمالهم، من دون تفكير ولا تفكّر، بحسب تعبير القرآن! كان فريد الزغبي وغسان تويني وغيرهما شديدي الحذر تجاه مُنمطات قومية ايديولوجية تُساهم في عدم شرعنة légitimation لبنان في الادراك الجماعي وتلتقي مع المقاربة الصهيونية للبنان “كخطأ تاريخي وجغرافي”! 5. المثقفون العلماء في الشأن اللبناني libanologues: المثقفون اللبنانيون، الوطنيون والعالميّون في آن، بحسب تفكير André Gide، عديدون. لكنهم عرضة للاتهام من إيديولوجيين يعقوبيين! بمناسبة ذكرى الندوة اللبنانية بقيادة ميشال أسمر في السنوات 1946-1975، وحديثًا بمبادرة رينه أسمر، وذلك في 27 أيلول – 19 تشرين الأول 2012، تمت استعادة افكار محاضرين لبنانيين مرموقين من الماضي: “لبنان هو صنع لبناني” (أدوار حنين)، “مصالحة العقل اللبناني مع الحياة اللبنانية”، “تاريخنا هو الجميع الا نحن!” (جورج نقاش)، “يتوجب ان نختار ذاتيتنا”…! كتبت عليا الصلح في Le Monde في 25/4/1989: “انها دولة مُصطنعة، وتجربة محكوم عليها بالفشل، كما يقول منتظرو الحرب. نجيب بأن ما كان ممكنًا طوال ثلاثين سنة هو ممكن دائمًا (…) قرر جيش الحكم في سوريا (…) دمار لبنان والقضاء على نمط عيش يحلو على هذا الشعب”. انه نمط العيش في “وطن الخطر الدائم”، بحسب تعبير غسان تويني (1999). هذا النمط يُخبره الكسندر نجار في كتابه: Dictionnaire amoureux du Liban, Plon, 2014, 850 p. * * * اذا وصفني أحدكم بأني مُثقف ادرك ذلك كإهانة! على نمط Pascal، ان الذكاء الذي لا يُدرك حدوده هو براق وقد يلهي او يخدع، ولكنه لا يذهب بعيدًا. افضل منحوتة Rodin “المفكّر” الذي يتألم ويحفر، او على نمط بعض مقطوعات Beethoven حيث تتمادى النفس المعذّبة في مشكلة، او على طريقة Nietzsche الذي يقول: “حيث انت انقب بعمق”. ليس الفكر حبائل كلام، ولا رسائل واطروحات وبحوث شكلية للوجاهة والترقية. ان تفكّر penser، في الأصل اللاتيني، هو ان تزن (pensare) خلافًا للذكاء الذي يرصد الإمكانات، أما الحكم والفهم والبصيرة jugement فتبيّن ما يتمتع عمليًا بحظوظ التطبيق. رئيس كرسي اليونسكو لدراسة الأديان المقارنة والوساطة والحوار، جامعة القديس يوسف.