مي منسى
النهار
15052018
مع عودة المهرجانات إلى القلعة التاريخية بعد الحرب، صرت أقصدك إلى منزلك في برازيليا لأسقي تربة مقالاتي في “النهار” من ماء ذكرياتك في بعلبك، فأستمع إلى شهرزاد من عندنا، تقص عليّ أساطير من الواقع، آلهتها أرضيون:
“كأني عشت لمهرجانات بعلبك حياة ثانية، أكثر إثارة وسعادة من حياتي خارجها. الآلهة الذين عايشتهم، كانوا من هذا الكون الذي أنجب موسيقيين ومسرحيين ومغنّين وراقصين. بقدومهم إلى بعلبك كانوا يغدون جزءاً من أسطورتها، فنسير بجانبهم موشحين بهالتهم”.
هل فكرت في كتابة مذكراتك؟ سألتها وأنا في خضم ذاكرتها النضرة الصائنة مدى عقود، أهم العروض التي جعلت من بعلبك أتينا زمن الأغريق وطقوسها. مرات أعدت عليها هذا السؤال وفي كل مرّة كان الجواب هو هو: “لم يحن الوقت بعد” فمي عريضة كانت تعيش للحياة ، لا لما بعدها. عدت معها إلى أولى سني المهرجان. “شهادة القديس سيباستيان” لكلود ديبوسي، الموسيقى الإفتتاحية للمهرجان. أقرأ في عينيها حنيناً إلى زمن مضى. ترحل ثواني عني وتعود بقطاف طيّب من ذلك الوقت، الصور، فتختلط أمامي مشاهد من أوبرا ” تتويج بوبي” لكلاوديو مونتيفردي، وباليه موريس بيجار ، وزمن فخر الدين للرحابنة، مع صورها هي السيدة الجميلة، المتألّقة دوماً جالسة في الصف الأمامي إلى جانب الرئيس كميل شمعون وقرينته زلفا شمعون والسيدة إيميه كتّانه رئيسة لجنة مهرجانات بعلبك آنذاك.
“الصور باقية، تتذكّرنا، تخبر عنّا، هي أكثر وفاء من العمر الذي يذوي ويطوي معه الأحلام والطموحات. التاريخ في بعلبك ماذا نعرف عنه؟ سؤال لطالما حيّرني وأنا في إصغاء تام، إلى هربرت فون كارايان، إله من آلهة الموسيقى. في تلك الليلة من تموز عام 1968 بدا لي حقاً، بقيادته أوركسترا برلين الفيلهارمونية، كأنه حط عمداً بيتهوفن في سمفونيته “هيروييكا” في مواجهة مع باخوس إله الخمرة. كارايان كان بوقفته الشامخة على المنصة، يصبو إلى الخلود. رحل كارايان، وقبله بيتهوفن، وظلّت الحجارة شاهدة للأسطورة لا للنفس البشرية”.
لكنك يا ست مي من طبيعة التربة التي تبقي في الأرض شروشاً، تستمر بها الحياة.
“ذكرياتي هي الديمومة التي أقف حارساً عليها إلى أن يغافلني الموت”.
مذ أصبحت رئيسة للجنة مهرجانات بعلبك، ماذا أضفت إلى نشاطك الشغوف في اختيار البرامج؟
“يبقى وصول روستروبوفيتش عازف الشيللو العالمي إلى مطار بيروت، من أهم الصعوبات التي كادت أن تقف عثرة في طريقي لنقله إلى بعلبك. كانت الأجواء مضطربة والمتظاهرات لا تخلو من المخاطر. لم يكن لي بد من الإستعانة بطوّافة للجيش، فكان الرد إيجابيّاً، لن انسى ذلك اليوم الذي حط فيه روستروبوفيتش معي على أرض القلعة، وتمكّن من تقديم حفلته أمام جمهور واسع”.
مدى سنوات صرت أرافقك في هذه الرحلة الطويلة إلى بعلبك، كنت بناء على طلبك، أوقف سيارتي أمام منزلك، ونمضي معاً، أنا بجانبك ملزمة الصمت، تاركة لشهرزاد الكلام المباح. فأستشف من حكاياتك أموراً متعلّقة بحياتك حين كنت في عمر البراعم، زوجة لابراهيم سرسق وأم لثلاث بنات، ثم طلاق وهجران، وذكريات أليمة لا تودّين الرجوع إليها، “ما دام في قنديلي نقطة زيت قادرة أن تضيء دربي”.
وكان زواجها الثاني من كارلوس عريضة، “منه رزقت ابنتي الرابعة. وجاءت الحرب وأقفلت شركة “ليا”، وقرر أن يهاجر إلى المكسيك، لكني آثرت البقاء في لبنان إسوة باللبنانيين”.
في الفترة التي أدمنت فيها زياراتي لها، كنت ألمس مع كل زيارة، غياباً لشيء ما من الأثاث الثمين الذي فرشت به منزلها العريق. لم اسألها. كانت كتومة في ما يخص كرامتها، وكبرياءها. إلى أن علمت منها أن كارلوس المهاجر عاد إلى البيت الزوجي، لا ثروة جمعها هناك ولا مشروع حماية لامرأة تحمّلت ما لا تتحمّله زوجة، وظلت تسريحتها التي رافقت كل مراحل حياتها، شاهدة على رأسها الشامخ الذي لم تطوه المصائب.
في مقدمة لبرنامج عام 1973، كتبت مي عريضة رئيسة لجنة مهرجانات بعلبك ما يوحي الينا بتجذّر هذه السيدة في لبنان:
“مهرجانات بعلبك، أنت على صورة لبنان، بعلبك هذا المكان الذي يؤمّه من آفاق الدنيا عباقرة الفن ، وحلمهم أن يتحدوا ولو لليلة تحت سماء منجّمة، بهذه الشعلة الدائمة الساهرة على الخلود”.