30-01-2021 | 07:00 المصدر: النهار العربي

إحراق مؤسسات رسمية في طرابلس
الأوضاع المضطربة التي يعيشها لبنان، جعلت الصراع السياسي يأخذ منحى لا سابق له في تاريخ البلد. في طرابلس شمال لبنان أفقر مدن شرق المتوسط، خرجت تظاهرات ضد الجوع واحتجاجاً على الوضع المعيشي، سرعان ما تحوّلت تصفية حسابات بين أفرقاء سياسيين وطائفيين، في وقت يضرب الفراغ الحكومي كل القطاعات، ويرفع رئيس الجمهورية ميشال عون من سقف مواقفه تحت عنوان الرئيس القوي، فيفرض شروطه بالعنوان المسيحي واستعادة الحقوق، ما يؤدي إلى عرقلة تشكيل الحكومة. يعيش البلد المرحلة الأصعب في تاريخه، ولعلها المرحلة التي ستحدد مصيره، فيما السلطة السياسية المتمثلة اليوم بالعهد المتحالف مع “حزب الله” تتصرف وكأن البلد لا يعاني أي مشكلة، فيخرج موضوع التمديد لميشال عون الذي أعلنه محسوبون على رئيس الجمهورية ليزيد الضغوط، وكأنه مسألة راهنة وأولوية، لكنها من باب الابتزاز السياسي وموجهة خاصة إلى المكوّن السنّي وأيضاً رسالة إلى الرئيس المكلف سعد الحريري بأن الصلاحيات التي تكرّست بالأمر الواقع والتقاليد والأعراف خلال سنوات حكم ميشال عون ستبقى قائمة، ومنها صلاحيات تشكيل الحكومة، وبالتالي تهدف إلى إحراج الرئيس المكلف مع ضغوط أخرى لدفعه إلى الاعتذار. ما يجري في مدينة طرابلس لا ينفصل عن الصراع القائم وتصفية الحسابات بين أطراف السلطة. ولا يمكن تحييد رئيس الجمهورية ميشال عون عن هذا الوضع المتفجر، لأسباب متعلقة برغبته في إبعاد الحريري كرئيس مكلف وممارسة ضغوط مختلفة عليه وإحراجه في بيئته السنية بالدرجة الأولى، بالتوازي مع محاولات قوى سياسية أخرى متعددة الارتباطات لتصفية حساباتها وتحسين مواقعها حول الحصص الحكومية والصراع على الصلاحيات. لكن انفجار الوضع في المدينة الشمالية الكبيرة يؤكد انهيار الدولة ومؤسساتها أيضاً التي لم تعد تشكل مرجعية، لمصلحة أطراف السلطة التي جعلت قضايا الناس وجوعهم ومطالبهم ملعباً يتقاذف فيه أصحاب المحاصصات كرة التعطيل. وصلت طرابلس إلى حدّ الانفجار الاجتماعي، وتحوّل إلى فوضى، استغلتها قوى سياسية وأمنية ومجموعات متعددة، عملت على تحوير وجهة التظاهرات، على غرار ما حصل لجهة إحراق مبنى البلدية أو جزء من السرايا الحكومية، بغياب كامل للأجهزة الأمنية عن حماية هذه المرافق، وغياب متعمد لأي عملية استباقية تمنع الحرق واقتحام المؤسسات. ولا شك في أن هناك من يستفيد من حالة الفوضى، ولا تخرج الاتهامات حول التلاعب بأمن المدينة من الفراغ، خصوصاً على مجموعات يتم تحريكها من جهات عدة تُدرج ضمن حالة انكشاف البلاد أمام أزمات الداخل ومصالح وتجاذب سياسات الخارج، ولا يُستبعد أيضاً صراع الأجهزة التي تدخل هذا الصراع العام. النقطة التي أثارت أيضاً التباسات في موقف رئاسة الجمهورية من موضوع طرابلس، هي عدم دعوته المجلس الأعلى للدفاع للاجتماع، وهذا الأمر يؤشر الى موقف سياسي يهدف إلى رمي الكرة لدى البيئة السنية، خصوصاً بعد الدعوة الى انعقاد مجلس الأمن المركزي، فصارت القضية عند رئيس حكومة تصريف الأعمال حسان دياب، وهو أمر يشير في الوقت نفسه إلى الضغط على الحريري واستهدافه في بيئته وتصويره بأنه عاجز عن السيطرة على الشارع السني، وأنه ليس الرجل المناسب للمرحلة في ترؤس حكومة العهد الأخيرة. تعميم الفوضى وترك أمور طرابلس متفجرة، تُظهر كأن هناك من يريد أخذ لبنان إلى الانهيار الشامل، كمدخل لتثبيت الهيمنة السياسية والطائفية القائمة للتحالف الحاكم المقرر في شأن البلد، ثم التفاوض على صيغة جديدة تكرّس واقعاً جديداً للبلد، ما دام هناك قوى مستفيدة من التعطيل وتعزز مواقعها في بنية النظام، أبرزها الطرف المهيمن والمتحكم بالأمور والذي يمثله “حزب الله” والذي يربط، بمجاراة عون، مصير لبنان بتطورات إقليمية ودولية محتملة على مستوى المنطقة. أخذ العهد الاشتباك الحكومي نحو مسارات طائفية. هو أكد في كلام نُسب إليه أن رئيس الجمهورية يسمّي الوزراء المسيحيين وأنه لن يفرّط بما أنجزه خلال السنوات الأخيرة بجعل الفريق المسيحي شريكاً فعلياً، وليس صنيعة الآخرين الذين يفرضون مشيئتهم عليه. ويقول، “هنا مصدر صلاحياتي الدستورية ومسؤولياتي السياسية”. هذا يعني أن الرئيس عون يقدّم موقعه طرفاً بين القوى المتصارعة وليس حكماً يمثل اللبنانيين بكل أطيافهم، فيحصر التمثيل بمسؤوليته عن حصص المسيحيين في الدولة والحكومة والسلطة.المهم في هذا الإطار أن رئيس الجمهورية نسف إمكان تشكيل الحكومة برئاسة سعد الحريري، فهو لا يريد حكومة من 18 وزيراً، كما قدمها الرئيس المكلف، بل حكومة من 20 بإضافة وزيرين درزي وكاثوليكي، ليكرّس غلبة تحالفه مع “حزب الله” عبر ثلثين معطلين، يُمسكان بقرار الحكومة ويحددان وجهتها إذا تشكلت على هذا الأساس، علماً أن الحريري أعلن تمسكه بما يكرّسه الدستور من صلاحيات بين الرئيسين. هناك مخاوف حقيقية من أن يذهب البلد الى فوضى وانفجار كاملين، انطلاقاً من طرابلس. فلا أحد يستطيع تغيير موقف ميشال عون، حتى الذين ينتظرون مبادرة من “حزب الله” لا يراهنون على أن تنتج شيئاً غير مزيد من الاستعصاء العوني في وجه الجميع. فأي مبادرة سيقوم بها الحزب ترتبط بحسابات خاصة به، وهو ينطلق من حسابات إقليمية وتقديرات سياسية لا ترتبط بالوضع الداخلي وحده، بل تأخذ المعطيات الإقليمية كأساس لأي مبادرة، بما في ذلك تسلّم الإدارة الجديدة في الولايات المتحدة، وما إذا كان هذا الأمر يسهّل الحلول في المنطقة أو يطلق المفاوضات مع إيران، ثم يسهّل تأليف الحكومة، أو يعقدّها أكثر. أما الثابت، فإن أي مبادرة لـ”حزب الله” لن تتعارض مع الإطار العام الذي ينطلق منه حليفه ميشال عون، أي أن التّركيز سيكون على ضرورة أن يتنازل الحريري لحكومة موسعة تحل مشكلات العدد والحقائب والتمثيل، وهو ما يعني أنه سيأخذ من الحريري من دون أن يتعرض لحصة عون. الرهان على تغيير لدى عون هو محض أوهام. رئيس الجمهورية تصرّف منذ وصوله الى الرئاسة كطرف بين الأطراف وليس كحكم يجترح التسويات، ما يعني أنه ليس مستعداً لأي تسوية إذا كانت تأخذ من رصيد تياره السياسي، حتى لو كانت تعطيلاً يستمر إلى أمد طويل. التعطيل يأخذ لبنان الى الفوضى والانفجارات الأهلية، ولا توجد قوى اجتماعية ومدنية تستطيع انتشاله من الجحيم…
Twitter: @ihaidar62