12-01-2023 | 00:00 المصدر: “النهار”
في “مالينا”، الفيلم الذي أطلق بيللوتشي عالمياً.
تقول مونيكا بيللوتشي انه يصعب على الفنّان الحديث عن نفسه ومواجهة أسئلة فضوليين من نوع “كيف؟” و”لماذا؟” المتكررة، فهي لا تعي آليات اشتغالها تماماً لضمان جواب عليها. ومع ذلك، رأيتها تجلس لنحو ساعة أمام جمهور مهرجان لوميير الأخير في ليون، لتحكي عن سيرة #سينمائية انطلقت قبل ثلاثين عاماً جعلتها طوال العقود الثلاثة الماضية واحدة من أشهر الممثّلات في العالم، والسيدة الأحب على قلوب الرجال خصوصاً. يكفي ان تنشر صورة لها على وسائط التواصل الاجتماعي، كي يتسابق المعلّقون لتأكيد اعجابهم بواحدة من أجمل الوجوه التي ظهرت على الشاشة، حتى لو لم تكن أكثرها موهبةً.
جسّدت بيللوتشي أخيراً دور أنيتا إكبرغ في “فتاة النافورة”، وثائقي لأنتونجوليو بانيزّي. إكبرغ، الممثّلة السويدية التي ذاع صيتها بعدما لعبت دور سيلفيا في “لا دولتشي فيتا” لفيللني، توفيت قبل ثمانية أعوام في ظروف لا تُحسَد عليها، بعدما عانت ضائقة اقتصادية ألمّت بها في سنواتها الأخيرة. الفيلم يصوّر كيف سحقت الأيقونةُ الإنسانةَ، من خلال لقطات أرشيف لها مع مَشاهد تمثيل قامت بها البيللوتشي. في ليون، خلال اللقاء، كان لا بد من الحديث عن هذا الوثائقي، لأن جزءا من حضورها في المدينة كان من أجله. الا ان الحديث طال بشكل خاص الممثّلة الراحلة. “كنتُ شاهدتُ بعض أفلام فيلليني التي مثّلت فيها. هناك أيضاً أفلام كانت لها فيها اطلالات مقتضبة مثل “حرب وسلم”. في “فتاة النافورة”، نرى جزءاً من التاريخ الإيطالي من منظورها. في تلك الحقبة، كانت #إيطاليا تعيش فورة غير مسبوقة والابتكارات في كلّ مكان. كبار السينمائيين، فيلليني وروسيلليني وفيسكونتي ودي سيكا، يقدّمون جديدهم باستمرار. مع هذا الفيلم، نروي قطعة من التاريخ. وكوني في مهرجان لوميير الذي يهتم بالتراث السينمائي، فهذا هو المكان المناسب له”.
نجمة في سيارة مكشوفة
تعتبر بيللوتشي الفيلم بمثابة ماستركلاس، حيث نرى كيفية مقاربة الممثّل لدوره. لكن هناك شيء أبعد من ذلك حاول الفيلم الإشارة اليه: المرأة بين حقبتين، الماضي والحاضر. “عندما وصلت أنيتا إكبرغ إلى إيطاليا، كانت تلك المرأة الحرة الشقراء السكسي التي غادرت السويد بعمر شاب متجهةً إلى أميركا، وكانت تركب سيارة مكشوفة ولديها فيللا اشترتها من مالها الخاص، فيما كانت الإيطاليات لا يزلن داخل جدران المطبخ. لذلك، جسّدت لفترة طويلة كونتراستاً ثقافياً مخيفاً. نساء اليوم يتعلّمن كثيراً من هؤلاء النساء لأنهن استطعن تطوير العقليات القديمة. كانت طليعية. ثم للأسف، بعد النجومية، دخلت حياتها نفقاً مظلماً. لكن، ما أعجبني فيها انها حافظت على شكل من أشكال الخفّة التي ساعدتها على الصمود رغم ما فعلت بها الحياة. كانت جميلة لكنها أصبحت كسيارة فيراري لا يمكن قيادتها. في الواقع، دخلت نافورة تريفي ولم تخرج منها بعد ذلك”.
عندما “اقتحمت” السينما في مطلع التسعينات، كانت بيللوتشي تأتي من عالم الموضة، وفي البداية كانوا ينظرون اليها كدخيلة، مع كلّ الأفكار الجاهزة التي ترافق شخصاً ينتقل للتو من الموضة إلى السينما. اليوم، اختفى هذا في نظرها. كثيرون أصبحوا يأتون من الموضة، واختلف التعامل معهم في عالم يبحث عن التنوع. “الفنّانون اليوم يعملون في الموسيقى وفي عروض الأزياء وفي الأفلام. هناك انفتاح. في بداياتي، كان يُقال عنّي: يا إلهي، هذه عارضة أزياء، هذا لا يجوز!”. تروي بيللوتشي هذه الواقعة، ثم لا تتوانى عن التأكيد ان الكثير من الأفكار الجاهزة صحيحة ويجب الاستماع اليها، مثيرةً ضحك الحضور على “وقاحتها”.
مونيكا بيللوتشي في مهرجان لوميير. (هـ. ح.)
“خرجنا من المطبخ إلى العالم”
للجمال المشترك بين الممثّلتين إكبرغ وبيللوتشي، الأشقر للأولى والأسمر للثانية، مكان على لسان الأخيرة. فهي تقر – لا بل تقول انها لا تستطيع ان تنكر – ان الجمال شرع لها الكثير من الأبواب. كانت خجولة ولا تزال، والجمال سهّل حياتها، لأن الناس هم الذين كان يأتون اليها، بدلاً من ان تذهب هي في اتجاههم. وهذا جزء كبير من النجاح في الحياة. لكن، هي لا تنسى أيضاً ان تؤكد ان الجمال يدوم خمس دقائق لا أكثر، واذا لم يكن هناك شيء خلفه، فهو لا يعني الكثير. ثم، فجأةً، رأيتها تخرج بجملة جعلت الحضور ينتفض استياءً وسخرية: “اليوم، وقد صارت حياتي خلفي، وتبدد جمالي البيولوجي…”. لم يتسن لها اكمال الجملة، حتى بدأ الناس يضحكون على عبارة “تبدد جمالي”! السيدة التي جنبي، المتوسطة الجمال، أصيبت بدهشة، وفتحت فمها ولم تغلقه الا بعد دقائق. كان الجمهور مونيكياً على ما يبدو أكثر من مونيكا نفسها! ثم، بعد السيطرة التدريجية على هيصات الاستهجان الشعبي، تابعت: “الممثّلات الشابات اليوم يساعدن كثيراً. في الماضي، كانت الممثّلات، حتى أكثرهن موهبةً، يناضلن من أجل الحصول على أدوار جيدة بعد بلوغهن سناً معينة. كانت مسيرتهن المهنية مرتبطة بمظهرهن. ولم يكن هذا الشيء بدرجة التأثير نفسها على الممثّلين (الرجال). عندما كنت في العشرينات، لم أكن لأتخيل انني سأستمر في التمثيل بعد تجاوزي الأربعين. اليوم، كلّ شيء تغيّر، والمرأة تحسّنت أوضاعها. خرجنا من المطبخ إلى العالم، حتى وإن كنّا نعشق الطبخ والأولاد. ولأن النساء تغيرن، فالرجال تغيروا أيضاً. يجب الكف عن ذمّ الرجال. رجالنا اليوم يبدّلون حفاضات الأطفال، يأخذونهم إلى المدرسة ويتنزّهون معهم، في حين نحن نتولّى قيادة الطائرات، الخ. لكن، هذا كله يحتاج إلى وقت. صحيح نشتكي سوء أوضاعنا باستمرار، لكن أمورنا تحسّنت كثيراً مقارنةً بالماضي، ويجب النظر إلى ما هو إيجابي. لا شيء يتحقق بسهولة”.
تنظر بيللوتشي إلى سيدة حامل تجلس قبالتها، وتقول: “هذا دليل على وجود الأمل بيننا”.
#فرنسا وإيطاليا في القلب
كان “الشقّة” لجيل ميموني أول فيلم فرنسي تمثّل فيه بيللوتشي. هي المولودة في أومبريا، قلب إيطاليا الأخضر، قررت الذهاب إلى فرنسا، حيث وجدت نفسها تتقدّم لإجراء اختبار تمثيلي طمعاً بدور في الفيلم المذكور. هذا الفيلم غيّر كلّ شيء في حياتها. وكونه فاز بالـ”بافتا” (جوائز السينما البريطانية)، شرع لها طريق هوليوود حيث مثّلت في فيلمها الأميركي الأول، “تحت الشك” لستيفن هوبكنز مع جين هاكمان ومورغان فريمان، وعلى أثره شاركت في مهرجان كانّ. “كلّ شيء متّصل بعضه ببعض”، تقول. “والباقي جاء من تلقاء نفسه. أنا أدين الكثير لفرنسا في هذا المجال. هي وإيطاليا كلتاهما في قلبي”.
وجدت بيللوتشي فرصتها الأهم في التسعينات أمام كاميرا جيل جديد من السينمائيين الفرنسيين، من مثل يان كونن ولوران بينيغي وكريستوف غانز وغاسبار نويه وغيرهم. ذكرياتها عن تلك المرحلة؟ “عشتُ هذه الحقبة المليئة بالحيوية في باريس (…). السينما الفرنسية كانت منتعشة في تلك الفترة. شعرتُ اني جزء من عائلة، علماً أنه ليس عندي ذلك الشعور عموماً. كإيطالية تعيش في باريس وكإيطالية يُنظر اليها كغريبة في بلادها، عدم امتلاك جذور هو حرية في ذاته، ولكن يشعرك أيضاً ببعض الخوف، لأنك لست متجذّراً في شيء”.
ثقافات الآخرين
“مالينا” لجوسيبي تورناتوري في مطلع الألفية كان نقطة الانطلاق ليذيع صيتها عالمياً. استعاد مخرج “سينما باراديزو” دوراً كان يمكن ان تلعبه صوفيا لورين في الخمسينات. دور مثير علّق عليه أحد الشعراء، عندما تحدّثتُ معه عن بيللوتشي، بالقول: “مشيتها الواثقة تلك أمام أهل القرية الذين ينظرون اليها باعتبارها عاهرة، في حين الجميع يشتهيها، من النساء إلى الرجال فالأطفال والكاهن وحتى الله”. تروي بيللوتشي كيف تعرّفت إلى تورناتوري: “كنّا صوّرنا معاً دعاية، وقال لي حينها: هناك فيلم في بالي، واذا أنجزته يوماً فسيكون من بطولتك. خلال تصوير “تحت الشك”، تلقيتُ اتصالاً منه يعرض عليّ الدور. كنت سعيدة جداً بتصوير فيلم في صقلية. هذا فيلم إيطالي عُرض في جميع أنحاء العالم وأعطاني الكثير. كما ان موسيقى موريكوني مؤثّرة جداً”.
تذكّرها المخرجة الفرنسية فيرجيني أبيو التي تولّت محاورتها في ليون، بأنها خاضت تجربة سينمائية دولية جعلتها تسافر كثيراً، كما انها ألهمت العديد من السينمائيين، مثل إمير كوستوريتسا وبهمان قبادي وفيليب غاريل وغاسبار نويه. ترى ما الذي يثير حماستها في مغامرات كهذه؟ “مقاربة ثقافات مختلفة. عندما أعمل مع إيراني أتعرّف إلى ثقافته. خصوصاً اذا تعلّق الأمر بشخص لا يستطيع العودة إلى بلده. في “موسم الخرتيت” تكلّمتُ الفارسية، رغم أني لا أتحدّثها. تعلّمتها صوتياً وكنت أعلم ما أقوله. حتى صوتيات لغة أخرى شيء ساحر. مع كوستوريتسا كنت أتحدّث الصربية. مع ذلك، يجب دائماً توخّي الحذر عند الدخول في ثقافات الآخرين. هناك كودات لا نعرفها. الاحترام واجب لأنك تجهل ماذا كنت فعلت لو ولدتَ من تلك البقعة. كلّ هذا يجعلك تنفتح وتذهب إلى ما بعد الفيلم. إنها الحياة. عندما نقرر ان نمتهن التمثيل، علينا ان نكون مغامرين بعض الشيء. واحدة من ميزات الممثّل هي التأقلم مع الظروف. ثم ان مع كلّ مخرج جديد تتجدد تجربة التمثيل. العمل مع سينمائيين مختلفين من بلدان مختلفة يعني أيضاً الغوص في ثقافات مختلفة. عندما أسافر أدرك كم أني محظوظة، لو لم أمارس هذه المهنة ما كنت في هذه الأماكن”.
الخوف في عيون المبتدئين
تؤكد بيللوتشي انها ليست ممثّلة “زمنية”. بالزمنية تعني أنه لا يهمها كم يستغرق دورها على الشاشة. عندما يعجبها الدور لا تنظر الا إلى الدور. شخصية تطل لثلاث دقائق قد تكون مثيرة ومميزة. وأحياناً، تكون أكثر تألقاً من ساعتين على الشاشة. “هناك ما هو أكثر من حجم الدور يجعلني أرغب في العمل مع مخرج ما. وافقتُ على الظهور بدور صغير في فيلم لكوثر بن هنية، “الرجل الذي باع ظهره”، بعدما شاهدتُ لها “على كفّ عفريت”. تحركني الرغبة في التعرف إلى ديناميات جديدة ومشاركتها مع الآخرين. أحب علاقة التبادل هذه، هم في حاجة اليك وأنت في حاجة اليهم. تجربتي يجب ان تفيد في دعم الأجيال”.
أحد الحاضرين في الجلسة قال ان الممثّلة الأميركية فرانسز ماكدورماند، عندما جاءت إلى ليون، صرحت بأنها ما عادت ترغب في التعاون مع مخرجين مبتدئين. لكن يبدو ان بيللوتشي تخالفها في هذا الخيار. “يتطور المخرج وتتطور أنت معه. أحياناً، ننجز أفلاماً لا تخرج حتى في الصالات أو تفشل جماهيرياً، ولكنها تكون تجربة مهمة بالنسبة لك. تعي انه كان يجدر بك ان تمر بها. لا تعرف السبب، لكنها تبدو كما لو كانت مساراً إلزامياً. هذه لحظات مشاركة فنية تجعلك في مكان أفضل. نحن في تطور دائم، لا نتوقّف خلاله عن التعلّم. عملتُ في إدارة مخرجين مخضرمين، وعملتُ أيضاً مع مبتدئين ينجزون أفلامهم الأولى. ذلك الخوف الذي في عيونهم وذلك الارتجاف الذي في داخلهم أشياء أعرفها جيداً. مررتُ بها قبلهم. اللقاء الذي يحدث بين تجربتك من جانب وطزاجتهم من جانب آخر، قد يفضي إلى شيء مدهش. التعاون مع المبتدئين أجمل أحياناً. في أي حال، إني منفتحة على كلّ التجارب”.
رواية الإنسان
تعتبر بيللوتشي جسد الممثّل أداته. تماماً كالأداة التي يستخدمها العازف أو الراقص أو الرياضي. تمازحنا بالقول انها باتت تستعمله أقل فأقل. كونها تأتي من الموضة، كان جسدها وسيلة تعبير عن ذاتها. “السينما ليست كالمسرح: المسرح كلمات، السينما صورة. الكلمة فيها قد تكون حتى مزعجة أحياناً. نظرة أو حركة جسدية، تقولان أكثر بكثير من أي كلمة”.
تشرح انها تبني الشخصية على مستويين: أشياء عملية مثل الشَعر والملابس وطريقة المشي والنطق، وهناك اللاوعي الذي يربطها بالشخصية ولا تعرف لماذا. “شيء سري يجعلك تفهم الشخصية. تفهمها حتى لو كانت الشخصية مختلفة عنك، تتعاطف معها فترغب في سرد قصّتها. نحن الممثّلون يجب ألا نطلق الأحكام على الشخصيات التي نضطلع بها، علينا ان نحبّها أكانت لطيفة أم شريرة. نحن نروي الإنسان!”.
سمراء شغوفة
أي دور تحلم به؟ هناك الكثير من الأدوار. عينها على شخصيات تاريخية مثل كاترين دي ميديتشي. لكن تحب قبل أي شيء ان يفاجئها المخرج عبر التفكير فيها لدور لم يخطر في بالها من قبل. ماريا كالاس (في المسرح) أو أنيتا إكبرغ دوران ما اعتقدت يوماً أنهما لها. كلّ الأفلام ساهمت في تطويرها بشكل أو بآخر، ولكن لا تزال تشعر بالخوف وهي على البلاتو. تعد الجميع بلا تردد: “في اليوم الذي سأشعر فيه بأنني منهكة، سأتوقف فوراً. لكن، في الوقت الحالي، الشغف لا يزال يحركني”.
“لماذا لا تمثّلين في أفلام كوميدية؟”، سؤال أخير يطرحه عليها أحد المستظرفين. “لأنني سمراء!”، ترد فوراً كما لو كانت تنتظر السؤال منذ زمن. يضحك الجميع وينتهي اللقاء.