سابين عويس
النهار
23102017
على اهمية الإنجاز التشريعي المشوب بالمخالفات الدستورية، طوى “تيار المستقبل” و”التيار الوطني الحر”، صفحة سوداء في تاريخ العلاقة بين الفريقين، شكلت السياسات
المالية الحريرية مدى اكثر من عقد من الزمن مادة شعبوية دسمة للتيار البرتقالي من خلال تصويبه الدائم على تلك السياسات التي كبدت وفق منظومته التسويقية اعباء مالية ضخمة، وتفشياً للهدر والفساد ومخالفة الدستور والقوانين المرعية، فيما طرح “التيار” لنفسه شعارات اصلاحية تغييرية شكلت بذاتها تسمية الكتلة النيابية المنبثقة من انتخابات 2009، والتي ضمت نواب التيار والأحزاب والتيارات الحليفة.
لم يكن “الإبراء المستحيل” مجرّد عنوان لكتاب أصدره “تكتل التغيير والإصلاح” عام 2013، لتعداد المخالفات المالية التي جمعها، او خلاصة للوقائع والمعطيات المتّصلة بعدم قدرة السلطة على إقرار أي موازنة بالشكل الدستوري والقانوني منذ عام 1993، بل كان بكل بساطة، موقفا جازما للتيار “الاصلاحي” ضد السياسة الحريرية، يلتزم استحالة إبراء ذمة هذا الفريق، خصوصا بعدما بلغ الاصطفاف السياسي على ضفتي 8 آذار حيث ينتمي “التيار الوطني الحر”، و14 آذار التي يتزعمها الحريري، ذروته. فبقي الملف المالي أسير التجاذبات السياسية، وظلت مشاريع الموازنات رهينة قطوعات حسابات غير منجزة، وتحول الإنفاق على اساس القاعدة الإثني عشرية الذي يجيزه الدستور لشهر، إنفاقا دائماً استمر نحو 12 سنة ولا يزال في انتظار بدء العمل بالموازنة الجديدة في الأسابيع القليلة المتبقية من السنة!
وعليه، لم يدم “الابراء المستحيل” كثيرا، حتى جاء يوم فرضت فيه التسوية السياسية ان يجلس الفريقان معا على رأس السلطة ويتحالفا من اجل تحقيق إنجازات تخدم صورة العهد والحكومة على السواء. فكان من ابرز بنود تلك التسوية ان أتت بمؤسس التيار البرتقالي العماد ميشال عون الى رأس السلطة، فيما أتت بزعيم “المستقبل” سعد الحريري، وبعد أعوام من البقاء خارج السلطة وحتى البلاد، الى الرئاسة الثالثة. وفي الذكرى الاولى لصعود عون الى رأس الهرم السلطوي في لبنان، اكتملت فصول التسوية بقفل الملف المالي وإصدار صك براءة بما اعتُبر مدى أعوام انتهاكاً للدستور.
صحيح ان المادة القانونية التي اجازت بت الموازنة قبل قطع الحساب ريثما يتم انجازه، بررت في اسبابها الموجبة المخالفة الدستورية بأنها في سبيل تحقيق المصلحة المالية العليا، ولمقتضيات الضرورة لجهة تحقيق الانتظام المالي العام، ولكنها في الواقع رفضت ان “يتأتى عن ادراج هذه المادة اي اقرار صريح او ضمني بصحة الحسابات المالية او تنازل صريح او ضمني عن ايّ من حقوق الخزينة”.
قد تكون الموازنة انجزت، وبأصوات التيار البرتقالي، كما أصوات التيار الأزرق، رغم الاعتراضات عليها او الامتناع عن التصويت لها، ولكن ما لا يزال غير واضح هو ما اذا كان حزب الكتائب سيلجأ مجددا الى الطعن، علما ان حظوظ الطعن هذه المرة ستكون اقل من المرة السابقة لان الحكومة أخذت بتقرير المجلس الدستوري بالمخالفات التي قام على اساسها الطعن، ما يعني ان الطريق باتت سالكة امام الحكومة للمباشرة بدرس مشروع قانون موازنة 2018 والذي، للمفارقة، كان موجودا لدى رئاسة مجلس الوزراء ضمن المهلة الدستورية.
يذكر ان “الابراء المستحيل” اعتبر أن كل الإنفاق لم يخضع لأي رقابة أو تدقيق خلال العقدين الماضيين، وقد وصل إلى 250 الف مليار ليرة. ويستند إلى عدد من الوثائق التي تثبت أن السلطة منذ العام 1991 لم تقرّ أي قطع حساب أو حساب مهمة منذ عام 1979 لأسباب عديدة، منها له علاقة بالحرب ومنها ما يتعلق بالتلاعب بالحسابات.
ثم بدأت معركة الـ11 مليار دولار ضد رئيس الحكومة سابقا فؤاد السنيورة. اذ ادرج الكتاب تجاوزات في الإنفاق عن الأعوام 2006، 2007، 2008، 2009، بقيمة 11 مليار دولار. أما قطوعات الحسابات فكانت مقرّة بلا تدقيق حتى عام 2003، فيما ردّ ديوان المحاسبة كل حسابات المهمة عن الأعوام 1993 – 2000 بسبب عدم وجود مستندات تثبت صحّتها. وفي مرحلة ثانية ردّ ديوان المحاسبة إلى وزارة المال كل الحسابات عن الأعوام 2001 – 2010 للسبب نفسه. وبما أنه لم يقر قطع الحساب، ولا حسابات المهمّة، فإن مجلس النواب لم يقرّ أي موازنة منذ عام 2005 حتى الامس القريب.
واللافت ان الموضوع انتقل إلى لجنة المال والموازنة بعدما تسلم رئاستها نائب “التيار” إبرهيم كنعان، فكثفت عقد جلساتها لتبيان كل الوقائع المتصلة بالحسابات العامة. وعقدت اللجنة أكثر من 54 جلسة في مدة شهرين وأجرت التحقيقات لتخلص الى اقتراح بانشاء لجنة تقصي حقائق ولجنة تحقيق برلمانية، ولكن لم يكتب للجنة النور. فيما تلقف وزير المال الملف ليعلن في وقت سابق ان الوزارة بدأت العمل على قطع الحسابات وأنجزت تسعة من أصل 12، ليعود في جلسة لمجلس الوزراء عقدت قبل بدء مناقشة المجلس النيابي لمشروع موازنة 2017 ليفجر فضيحة من خلال تقرير رفعه الى الحكومة وأرفقه بمشروع قانون قطع الحساب لعام 2015 كشف فيه عن وجود كارثة في المالية العامة منذ العام 1993 حتى العام 2010 بسبب عدم وجود حسابات!
كل ذلك لم يمنع التسوية من ان تسلك طريقها لترى موازنة 2017 النور بعد أعوام من غياب الموازنات. لكن السؤال المطروح اليوم: هل يعود الانتظام المالي مع اقرار الموازنة، ام ان جل ما حصل عودة للموازنة في انتظار قفل الحسابات المالية لتنتظم فعلا المالية العامة؟
sabine.oueiss@annahar.com.lb