كتب يوسف معوّض
قولي هذا يأتي ردًّا على عنوان مقال للسيدة داني الملاط يراجع مسرحيّة ” الأبرار” ” Les Justes ” للأديب الفرنسي ألبير كامو، وللأسف استعملت كلمة “العادلون” مكان كلمة “الأبرار”. أخرجت هذه المسرحيّة السيّدة كارولين حاتم على خشبة مسرح جامعة القديس يوسف في أواخر شهر أيار. **
أما بعد،
لقد قيل إن الثورة الفرنسيّة التي اندلعت العام 1789 افترست أبناءها، فهل يسعنا الزّعم أن أبناء “الثورة” في لبنان سينحرفون عن الأهداف التي انطلقت على أساسها حركتهم في ال 17 تشرين الأول؟ إن الأمثلة المستقاة من تاريخنا اللبناني لا تبعث على التفاؤل. فهل لنا أن تتساءل أين صار الماركسيون المتشبعون من الفكر الكولخوزي ، وأين صار التروتسكيون والمثاليون الأوتوبيون ، مناضلو الستينيات والسبعينيات ، هؤلاء المثقفون الذين ما كانوا يستشهدون إلا بصراع الطبقات ولا يقسمون إلا باسم الثورة الفلسطينية؟
بالحقيقة ، لقد استوعب “لبنان العميق” معظم هؤلاء ، وأعني بلبنان العميق الأحزاب التقليديّة الطائفية والشبه طائفية، في حين تبنّت بعضهم سائر مكاتب المخابرات، هذا إن لم يتحوّلوا ذهنيّا الى الليبيرالية دون حدود ، تلك التي دعى إليها رفيق الحريري. ولا داعي لذكر الأسماء فهي على كل شفة ولسان وهؤلاء المنتفضون في السابق يتبوّؤن اليوم المناصب والمواقع في الإدارات الخاصة منها والعامة.
فماذا دهاهم وبأي سحر ساحر انقلبوا مثلًا من الجناح المتشدّد في منظمة العمل الشيوعي الى أحضان الإمام موسى الصدر، ليصيروا في عداد المنتسبين لحركة أمل؟ لن أتوقف حياء عن ذكر تلك الآنسات الفرنكوفونيات اللواتي كن يطالبن بالثورة وبتعريب المناهج، وهن أضعف خلق الله في التعبير عن غضبهِن الساطع بلغة الضاد. وفجأة تنازلت تلك المناضلات المقيمات في راس بيروت وجوار فردان عن قناعاتهن الإنقلابية، وعدن أدراجهن تحت جنح الظلام الى معقل الإنعزالية في الأشرفيّة. وعذرهن أن الإنفلات الميليشياوي في المناطق التقدّمية لا يطاق ويشكل طعنًا بروحية وبراءة الفكر التقدّمي. هذا كله في حين أن الميليشيات في الشرقية، أي في المناطق المحرّرة، لم تقل تعسفا وقمعا عن أخواتها في المناطق الوطنيّة. مشهد كان هذا المشهد، مما يوجب التوقف عنده : فنقل البندقية من كتف الى كتف كان مؤسفًا بنظر البعض، ومضحكا في نظر البعض الآخر إلا أنه كان متوقّعا من قبل المشككين في براءة الطبيعة الإنسانيّة وفي أساس كل ثورة “صنعت في لبنان”.
هذا عن الماضي القريب ، فكيف بالقادمين الجدد إثر اللإنتخابات النيابيّة ، هؤلاء الشباب الذين أتحفونا بمواقفهم التغييريّة، وهم من نتاج موجة 17 تشرين الأول. فمن قال أنهم سيتصرّفون خلافا لأسلافهم في آخر أيام الجمهوريّة الأولى؟ أيستمرّون في مواقفهم الصلبة والممانِعة بوحي من ضميرهم ، أم حياء أم خوفا من القال والقيل؟
وحده الإمتحان في ساعة الحقيقة سيميّز بين “الأبرار الأحرار” وبين المنافقين.
أقول هذا وأنا على أشد الحذر من هؤلاء المبتدئين في لحياة السياسية لأنهم قادمون من المجتمع المدني وقد برهنوا عن مهاراتهم تحت رايته. وهذا المجتمع المدني كناية عن عبارة يمكن أن “ندحش” فيها كل مفهوم شاع منذ سقوط حائط برلين ومنذ التحولات الديمقراطية في أوروبا الشرقية، تلك التي جرت بأسلوب مخملي. أننسى كم لنا على مؤسسات المجتمع المدني في لبنان ومنطقة الشرق الأوسط من مآخذ، وكم سخّر هذا المفهوم لحسابات ضيّقة وهرطقات مالية صارخة وأساليب مدانة. إن أية عمليّة تدقيق حسابية بسيطة قد تكشف المستور الذي كان يُرتكب في كل يوم باسم العمل الخيري charity business والإنماء المستدام development sustainable **وهما من الإختصاص الحصري لهذا المجتمع المدني. وباختصار كيف باللجوء إلي هذا الأخير كضمانة لحسن السيرة والأخلاق؟ فعلى جمعيات المجتمع المدني هذه أن تتطهر من براثن الفساد كي تشكّل ضمانة للوافدين الى البرلمان. عندها ، ولما تكون الحسابات المالية شفافة، يمكن للناشطين في هذا المجال الزعم والتحجج بانهم من أبرار اللبنانيين وأحرارهم.
فشرت!
كيف يكون الإنسان حرًّا بارًّا ؟ الحرّ هو شخص ذو قناعات راسخة يعمل وفق ضميره ومبادئه. فعندما يواجه مشكلة مستعصية ، قد يتردّد ربما لأنه بالنتيجة إنسان. إنما عليه في نهاية المطاف أن يقول “لا” للمغريات وأن لا يدخل في التجارب كما علمنا المسيح عندما نتلو الأبانا . أقول هذا لأننا في بلاد المساومات والمحسوبيات والتحايل على القانون.
من مِن هؤلاء المنتفضين الساخطين سيقدم على رفض كرسي وزاري من أجل الحفاظ على تماسكه الأخلاقي وصفاته النبيلة؟ أقول هذا لأني أعلم كيف أن هذا الزعيم أو أمير الحرب ذاك، سيفرش السجاد الأحمر من أجل استيعاب تلك الرؤوس اليانعة ولضمها الى حظيرته.
نحن نتذكر كيف أن كثيرا من هؤلاء التقنوقراطيين في زمن الحريرية السياسية كان يعتبر أن الفساد في الإدارة مسهِّل lubrifiant للإقتصاد إذ يؤمّن الليونة لإنطلاق الأعمال. ومن حقنا أن ننبّه من موقف هؤلاء الذين لا يمانعون إطلاق حملاتهم الإصلاحية في الإدارة في ظل وضع اليد الإيراني على مقومات البلد. ووضع اليد غير المباشر هذا لا يلحظونه ، استجابة لبعض التمنيات، في خطاباتهم وبرامجهم عند مقارعة الفساد وأهله.
إن المشهد أعلاه سوداوي للغاية إنما، من الواجب علينا أن نقف موقف الحذر من هؤلاء الذين يتعاملون مع الواقع ويتأقلمون مع الجو الغالب إذ هم يشكلون “فروخ المتعاملين”؟ إن السيّدة ليز لندن التي انتفضت على الإحتلال النازي لفرنسا وعانت الأمرّين، كانت تقول : ” لا يولد الإنسان مقاومًا بل يصبح كذلك بحكم الظروف. فعليه أن يقول كلمة “لا”وأن يردّدها ويصرّ عليها”.
وبالعودة الي السيدتين كارولين حاتم وداني ملّاط والى الأحرار الأبرار الذين لقبوا بالعادلين Justes” “Les نسبة الى مسرحية البير كامو، وبالتوقف عند الفصل الرابع من هذه المأساة عندما يقوم مدير السجن باقتراحه على الإرهابي كالييف بمنحه الحياة مقابل خيانة أصحابه والتنازل عن مبادئه. فما كان برأيكم جواب المحكوم عليه بالإعدام ؟ لو نطق بالعربية لصرخ بوجه السجّان “فشرت”!
علّ أبناء الثورة والدّشم أمام البرلمان أن يبقوا روافضًا وأن يلاحقوا الفاسدين والمفسدين والماكرين المتورّطين وخصوصًا المتعاملين لأننا نحن نرزح تحت الإحتلال.
من يجرؤ على الإفصاح ب “لا” في وجه من يعرض المال والجاه وما يشبه ذلك من الذي يفسد الأوطان؟ من سيصرخ في وجه النافذين والعظماء ” أنا لا آكل من هذا العجين فهو مجبول بالقرف”. مَن ومَن ، ميشال أم مارك، حليمة أم نجاة، سنثيا أم ابراهيم أم ياسين…؟
إن مرّت علينا وعليهم سنة، ماذا سيبقى من ثورويّة أبناء الثورة؟ هل يجرؤون على قول “فَشَرت”؟
يوسف معوّض
ويضيف المترجم خلاصةً هذا البيت من الشعر لسعيد عقل :
“ما المالُ؟… قَولَهةُ “لا”… واللهُ ألبَسُهُ بهِ غَنِيتُ وغَيْري بالتُّرابِ غَنِى”
* نشر هذا المقال في صحيفة “إيسي بيروت الإلكترونيّة” بالللغة الفرنسيّة
** OLJ / Danny MALLAT, le 28 mai 2022,” La thaoura n’a engendré que des justes”.
*** Graham Hancock, Lords of Poverty, Camerapix Publishers International, Nairobi, 2007.