من أيام سليم تقلا ان العهد الجديد في فرنسا ادراكا منه ان الديموقراطية هي ممارسة يومية وان الثقة بين المسؤول والمواطن لا تترسخ الا بازالة الحواجز الناتجة من هرمية السلطة، وبدون هذه الثقة ليس من انماء حقيقي، لجأ الى تدابير تزيل الحواجز بين الفريقين وتعيد الى المسؤول صدقيته، فابتدأ بتطبيق القوانين العادية على نفسه. من هذه التدابير الامتناع عن مخالفة قانون السير وخرق الضوء الاحمر واستعمال المواكبات المضخمة والرنانة والسفر بالطائرات الخاصة وفي الدرجة الاولى ورفض الاستثناءات الخ.
فان المسؤول يسعى الى الاقتراب من المواطن بحياته اليومية حتى يشعر بهمومه ومشكلاته بدلا من الاسراف بالتدابير التي تقطع التواصل بينهما. كم نحن في حاجة في لبنان الى ان يقتدي الحاكم بما هو حاصل في فرنسا حتى تستعيد الديموقراطية معناها والحاكم صدقيته والمواطن الثقة فيعود المسؤول الى حياة متقشفة بعيدة عن البذخ والمواكبات الرنانة والعملاقة والسير عكس السير والطيارة الخاصة والحاشية الفضفاضة، وهو يعمق هكذا الهوة بينه وبين المواطن في الوقت الذي يدعو المواطن الى التقشف والحد من الاستهلاك، وكأنه يقول له: افعل ما اقول ولا تفعل ما افعل. ولكن هذا النداء لم يعد يقنع احدا.
في مطلع عهد الاستقلال زار وزير الخارجية اللبنانية سليم تقلا بريطانيا ليشكر وزير خارجيتها انورين بيفن على موقفه المؤيد لاستقلال لبنان، فأهداه علبة حلوى اعتذر الوزير عن عدم قبولها واحالها على مكتب التقنين. وبريطانيا كانت في حالة التقنين بعد الحرب، وعلق سليم تقلا على ذلك بقوله لوالدي الذي كان صديقا حميما له: “لو كان الامر في لبنان لكان المسؤول استصغر الهدية وطلب حصة في المعمل. انهم يبنون دولة ونحن نبني مزرعة”.
المحامي عبدالله زخيا ثقة “ان تجد الاموال اللازمة! ان تبحث عن مصادر لتمويل المشاريع التي يضعها الوزراء! تلك هي مهمتك ووظيفتك، والا هل تستطيع ان تقول لي ما هو سبب وجودك وزيراً للمال في مجلس الوزراء؟”. بهذه الكلمات ردّ وزير المعارف المصرية الدكتور طه حسين على وزير المال بعدما رفض الاخير مشروعاً متكاملاً لقضية التربية والتعليم في بلاد النيل.
ويبرز السؤال الآتي: هل مهمة الوزراء في اي بلد من العالم هي غير وضع المشاريع التي تساهم في التقدم والرقي والحضارة؟ وهل مهمة وزير المال هي غير التفتيش عن الاموال اللازمة لوضع هذه المشاريع موضع التنفيذ؟ لي صديق يعمل استاذاً، عضه الجوع، يحمل هم تدبير معيشته. في العاشر من كل شهر تبدأ المعاناة.
المال كيف يؤمنه؟ لقد ابتدع كل انواع الحيل والذكاء، وكان الحل نقدمه الى وزير المال السابق او اللاحق نساعده فيه على ايجاد مخارج ولو موقتة تريح الآن من شبح الغد.
الحل الاول، ويقضي بربط الشهر من عشره بحبل معدني غليظ من جهة، والطلب من احدى الآلات الضخمة التي تعمل على شق الطرقات والاوتوسترادات بشده الى آخره. فينتهي الشهر ثم نعود الى الدوامة!
والحل الثاني يقضي بصرف منح الوفاة للمعلمين كي يصرف كل معلم منحة وفاته على حياة عينيه، لأنه في حاجة اليها الآن علها تسد زاوية من الزوايا الفارغة في شكل هندسي زواياه لا تعد ولا تحصى. وطبعاً هذا الحل يفوت الفرصة على بقية القطاعات ويمنعها من المطالبة بالمساواة لأنه في الحديث عن الموت يخيم جو من التشاؤم عليها ويضعها في مواجهة الفناء.
سئمنا العبارات المتداولة كعبارة الخزينة فارغة، والوضع لا يحتمل، والارقام المنتفخة، والكلفة الاجمالية، والسلسلة الجديدة، والتوصيف، وضعف الخزينة وهزالها والامراض الفتاكة التي نزلت بها، ابعد الله عنها مرض ايبولا القاتل، بعد اصابتها بمرض فقدان المناعة “السيدا” كونها مشاعاً! سئمنا كل علامات التعجب والاستفهام لدى المسؤولين. مطلب واحد وحيد من الحكومة الجديدة القديمة عنوانه الثقة. ان يشعر المواطن والمعلم في شكل خاص ان هناك مسؤولاً يتطلع اليه يفكر فيه يحمل همومه، يقدر عطاءه ورسالته. فهل من يبني هذه الثقة مدماكاً اساسياً في ورشة البناء؟ ليس للمعلمين وحدهم بل لكل القطاعات الانتاجية في المجتمع؟ عندها نكون قد اعدنا التوازن الى حالة انعدام الوزن.
نزيه فواز استاذ في التعليم الرسمي الخاص الستحقاق الرئاسي منذ عهد الاستقلال وبعض الرؤساء – عند اقتراب نهاية رئاستهم – يسعون جاهدين سرا او علنا الى تعديل الدستور او تعديل مادة معينة منه ليجددوا رئاستهم. والغريب في الامر ان كل واحد من هؤلاء الرؤساء كان يعلن قبل انتهاء مدته بسنة او اقل انه زاهد بالكرسي وانه لن يبقى ساعة واحدة بعد انتهاء مدته. الا انه يكاد لا يشعر بقرب النهاية حتى ينسى زهده. وفي كل مرة كان سعيه الى التجديد ينتهي بالفشل بفضل وعي الشعب ووعي النواب معا.
ما اكثر العبر وما اقل المعتبرين! صحيح ان الدستور ليس كتابا منزلا الا ان الصحيح ايضا ان الدستور ليس خطابا نلقيه او مقالا انشائيا ننشره نضيف اليه كما نشاء ونحذف منه ما نشاء وساعة نشاء حسب الظرف او المناسبة. ولا هو ثوب يفصل على جسم شخص من الاشخاص، نقصر من هنا ونطيل من هناك حتى يتناسب هذا الثوب وجسم هذا الشخص. الدستور مجموعة قوانين اساسية وضعت بعد درس عميق لترتكز عليها عجلة الدولة في مسيرها واعمالها. واذا دعت الظروف تعديل شيء منه عندئذ يجب ان ُيعدل.
وانني لأسأل بعض الذين يرغبون في تعديل المادة 49 من النواب والمتنفذين: لماذا لم يفكروا في تعديلها منذ سنة او سنتين او ثلاث في جلسات المجلس السنوية؟ اليس هذا اذاً دليلا واضحا على ان المطالبة بالتعديل الان امر شخصي بحت، لا يمت الى المصلحة العامة بصلة؟ واني لأسألهم ثانية هل من انسان في الدنيا – مهما بلغت عبقريته او جدارته – لا ُيستفتى عنه؟ لقد استفتي عن ونستون تشرشل بعد الحرب العالمية الثانية. واستفتي عن الجنرال ديغول بعد انتهاء مدته الاولى.
وهل خلت البلاد من رجل اخر كفء نزيه جدير بحمل عبء المسؤولية الرئاسية؟ علما بأنني اكن للرئيس الهراوي كل محبة وتقدير لمواقفه الوطنية والسياسية المشرفة ولمنجزاته العديدة. كما اكن كل احترام واعجاب للسيدة الاولى منى الهراوي لنشاطاتها الاجتماعية واعمالها الانسانية والتي تجسد البذل والعطاء. الا اني لا ازال اعتقد ان مامن دولة ديموقراطية حرة لجأت او تلجأ الى تعديل دستورها كلما قاربت مدة رئيسها على الانتهاء. فاتقوا الله في الدستور وفي الشعب، واحجموا عن محاولات التجديد والتمديد.