محمود سعيد
Sep 05, 2018

■ سفينة من البصرة غرقت قبل 1239 سنة، تكشف خط الحرير البحريّ في سنة 878 غادرت البصرة سفينة من البصرة، إلى قوانغتشو في الصين، في وقت كانت فيه التجارة، والعلاقات السياسية بين البلدين في أوجها، فقد استعاد امبراطور الصين بعض المدن، من متمردين عليه، بوساطة جيش من أفضل الفرسان، أنجده بها الخليفة المنصور. وكان التجار العرب والفرس والهنود وبقية الوافدين قد اتخذوا مدينة قوانغتشو قاعدة لهم، وعاشوا فيها بأمان وحرية مطلقين، وفي طريق رجوعها وهي محملة بأكثر من 56000، قطعة تسوّقت بها من الصين، غرقت في مضيق خاضع لإندونيسيا الآن، ذلك المضيق كان ومايزال منطقة يتكاثر فيها اللؤلؤ، ولذلك أصبحت حمولة السفينة، في هذا العصر تحت نظر غطاسي اللؤلؤ، الذين التقطوا ما قدروا عليه من تحف ثمينة، ضمن حمولة السفينة المنكوبة، وباعوه في أسواق المنطقة، وتحدثوا عن الكنز، والمنطقة التي غرق فيها، فوصلت أخبارها إلى شركة مشهورة تتصيد الكنوز الضائعة في البحار، وحين تأكدت من وجود السفينة وبضاعتها، وحسبت ما ستناله من أرباح، إن هي استخرجت الكنز، بدأت في العملية، التي استغرقت عشر سنوات، أما الحصيلة فكانت مجموعة من أفضل ما عُثر عليه، إلى حدّ الآن، في طريق الحرير البحري، وحين انتشر الخبر في جميع أنحاء العالم، أقبلت وفود البلاد «غير العربية بطبيعة الحال» التي تقدر الآثار حقّ قدرها، وتجمعت في المكان للمزايدة على الكنز، ففاز به وفد الدولة الناهضة الصغيرة سنغافورة، وكان (شيا) رئيس بعثة سنغافورة، مخولا بشراء الحطام كله، فدفع سنة 2005 أكثر من 30 مليون دولار، متفوقا على وفود عدة، وفي نيته أن يصبح هذا الكنز نواة لأثمن متحف بحري لطريق الحرير المائي، في العالم. كان من المفترض أن يعود هذا الكنز إلى العراق، لأن التجار العراقيين هم الذين اشتروه في الزمن الماضي، ودفعوا ثمنه، أولا، ولأن المبلغ الذي أرسي على الكنز ثمنا له، لا قيمة له، مقارنة بما يحتويه، وبما يدل عليه ثانيا، أما ثالثا فإن المبلغ زهيد مقارنة بواردات العراق النفطية التي تتجاوز مئة مليار دولار سنويا.
العراق والصين
في القرن التاسع كان هناك محركان مهمان للتجارة العالمية أحدهما في الشرق، وهم تجار الصين تحت حكم أسرة تانغ، التي تمتد إمبراطوريتها خارج حدود الصين، إلى الشمال حيث التيبت، ومنغوليا وروسيا، حتى جنوب بحرها، مع موانئ مفتوحة على التجارة الخارجية، كانت أسرة تانغ ترحب بمواطني الدول الأخرى في عاصمتها «تشانجان»، التي بقيت نموذجا للتعدد القومي، لا تراه في أي مدينة غربية حتى لندن «القرن التاسع عشر». وكحال الصين الآن، كانت آنذاك قوة اقتصادية، تعتمد على التجارة، وإن كانت الصين تصدّر الآن مختلف البضائع، من الأحذية الرياضية حتى الإلكترونيات، وتطمغها بطمغة «صنع في الصين» فقد كانت آنذاك تصدر مواد أخرى وجدت نماذج لها في الآثار العامة، وفي السفينة الشراعية، الغارقة، كالآواني الخزفية، والمصوغات الذهب والفضة والأثاث المحفور والمزخرف، والحرير بطبيعة الحال. أما المحرك الثاني للتجارة العالمية آنذاك، فكان تجار بغداد، ونحن لا نستطيع أن نذكر رقما محددا بعملة ما، لكننا نستطيع أن نستنتج المبالغ الهائلة المستعملة بالتجارة، إذ صادرت الدولة أحد التجار، بمبالغ هائلة، لكنها أبقت عنده ما يقارب ملياري دينار ذهبا، وهذا يعني ثروة فلكية لا تقارن إلا بما تملكه الولايات المتحدة الأمريكية الآن. أصبحت بغداد عاصمة الخلافة العباسية، مركز التجارة الأول في الشرق، بدءا من عام 750 وقت قيامها، وكان المنطقة بين نهر الإندوس في الشرق، وإسبانيا في الغرب، مجال نشاطها التجاري الواسع، مع دول الجوار وشعوبها، وتوثق انتقال البضائع بشكل مستمر، وفعال مع الدول غير المسلمة الأوروبية والشرقية ومنها الصين، والهند وجزر جنوب شرق آسيا، والدول التي تقع شمالها أيضا، وشجع الخلفاء الناس العمل بالتجارة، لكون أجدادهم القرشيين والرسول محمد «ص» نفسه عمل في التجارة، لذلك ازدهرت في جميع عهود الدولة الإسلامية.
سفينة البصرة
وإن استعرضنا بضاعة السفينة البصرية المنكوبة فسنلاحظ أي مستوى اقتصادي رفيع كان أجدادنا يعيشون فيه، فهي تحمل: 550000 ألف كاسة من السيراميك فائق الجودة، منقوشة نقوشا مختلفة، زهورا متنوعة رائعة، وصور آنية، وصور بشر، وحيوانات مختلفة، صغيرة وكبيرة، وصور أطفال، ومناظر مختلفة طبيعية للأرياف، وشلالات، وأسماكا وزهورا متنوعة، موجودة الآن ومنقرضة، ورموزا إسلامية، بينها كلمة الله، وحتى أشعارا عربية مكتوبة باللغة العربية، ومزججة بالنحاس، والفضة، والحديد، مع كم هائل من محابر كتابة، تبلغ السبعمئة وثلاث وستين محبرة، و915 جرة مملوءة بالتوابل من مختلف الأحجام، و1653 إبريقا، تنبئك أنّ البضاعة مصنوعة، أو مصدّرة حسب الطلب، لا كيفما اتفق، وأنها ستقع بيد شخصيات ذواقة تحبّ الفن، وتقدره حق قدره، من ذلك كوب ذهب، يحمل بمقبض، وحسب شيا «هذا أكبر كوب ذهب منقوش وجد حتى الآن».
يشير شيا إلى رجلين يظهران في كوب الذهب المنحوت، بملامح من وسط آسيا، بدلا من الصين، واحد بشعر طويل مجعد، ولحية كثة، وراقصة فارسية، تصفق بيديها فوق رأسها، وموسيقيين يعزفون بمختلف الالآت الموسيقية. يوضح شيا، أن الموسيقى والرقص الفارسي مرفوضان في الصين، حيث يفضل الرقص الوطني، وهذا يعني أن الأواني صنعت بتوجيه وبتصاميم من الخارج. قارورة كبيرة رائعة من الفضة، ربما صنعت لغرض خزن الأشياء الثمينة، كنز من نقوش طيور قلما تشاهدها خارج الصين. يشرح شيا: أنظر إلى البطتين الصينيتين المنقوشتين فيها، إنهما زوج مثالي متناغم، صناديق منقوشة اثنين اثنين أيضا، زوج من الطيور، زوج من الغزلان، زوج من الوعول، ربما ستكون بعض هذه الحمولة، هدايا لحفلة ملكية في العراق أو لأحد المسؤولين الكبار، أو أحد الولاة. لكن هذا التبادل التجاري الهائل انحسر بعد رحيل تشنغ بقليل، سيطر الكونفوشيوسيون، على الصين، فأحرقت الصين أسطولها، والتفتت إلى الداخل، وتتالت النكسات، فبعد سنة 878 بنحو نصف قرن، أي «بعد غرق السفينة البصرية» ظهر قائد متمرد «هوانغتشاو»، نهبت قواته المدينة «قوانغتشو» وأحرقتها، وصبت جام غضبها على السكان، خاصة التجار الأجانب، فقتلت أكثر من عشرة آلاف من المسلمين، اليهود، المسيحيين، العرب، الفرس. أما طريقا الحرير البري والبحري الذي يربط الصين بالعالم، فقد غرق في بحر النسيان، مع كنز سفينة البصرة، لم يبق سوى رحلات برية وبحرية قصــيرة، رحلات بينية بين مدن قريبة، أو إلى دول محاددة، تشــــمل موانئ في المنطقة نفسها، أو في مناطق مجاورة لا تبعد كثيرا، ثم سيطر على الطريق قوم جدد، هم البرتغاليون، فتحكموا بموانئ المحيط الهندي، وبنهاية القرن السابع عشر، وبداية الثامن عشر، بدأ الأوروبيون يسيطرون على العالم، ويحتكرون تجارته. وهكذا تغير تاريخ العالم كله. ولو لم تتقوقع الصين على نفسها مدة خمسمئة عام، كما يقول المؤرخون، لظل طريقا الحرير البحري والبري صالحين، يعملان.
٭ كاتب عراقي