سمير عطاالله
النهار
16052018
أوتاوا مدينة جميلة على نهر الاوتاواي، غارقة في الثلج والحدائق. وعندما يطل الربيع وينحسر البرد، تحتفل ببزوغ آلاف زهور التوليب الهولندية الحمراء. وبسبب هذه العلاقة مع التوليب، أعطت مفتاح المدينة لصاحبة السمو الملكي مارغريت أوف هولاند. وكانت من قبل قد سلمته الى الملكة اليزابيت الثانية. وأحياناً يتقرر ان يُمنح هذا التشريف لاديب أو اديبة، مثل مارغريت اتوود، اشهر روائية في البلاد. وناله أيضاً اشهر مصور في ايامه، الأرمني يوسف كارش، الذي التقط للتاريخ صور رجال أمثال تشرشل وايزنهاور. وعندما لا يكون هناك شخص يُعطى المفتاح، يُمنح لمؤسسة مثل جامعة كارلتون.
يُقدم المفتاح في حفل تكريمي يدعى إليه 500 شخص من أجل جمع التبرعات للعاصمة، ويرأس الاحتفال المحافظ الذي هو الآن المستر جيم واتسون. هذا العام قدم واتسون المفتاح لنائله قائلاً: “لقد كان مو (منير) عطاالله، رجل خير لا يُصدَّق في مدينتنا. إنه جاهز دائماً لمساعدة المجتمع بأي طريق يستطيع. وإن اوتاوا الأكثر غنى بوجود مو عطاالله، ونحن ممتنّون للانطباع الذي ساهم في اعطائه عن مدينتنا. لقد كرس نفسه للقضايا المحلية وعمل الخير، متبرعاً بالاموال وآلاف فطائر البيتزا للجمعيات الخيرية. وكان المستر عطاالله يفتح مطعمه كل عيد ميلاد مجاناً لجميع الباحثين عن الطعام والصداقة. إن سخاء عطاالله مشهود عبر اوتاوا كلها. وقد مُنح الوشاح الألماسي للملكة اليزابيت الثانية، وسُمي رجل اعمال العام (ايام رئيس الوزراء جان كريتيان).
يجب التوضيح سريعاً أن منير عطاالله ليس رجلاً ثرياً على الاطلاق لكن كندا بلد نبيل. من اللحظة الأولى لهجرته العام 1976 قرر ان يكون في وطنه الجديد كما كان في وطنه القديم: لا محازبات ولا عصبيات ولا جنون غرائز.
ساعده في ذلك ان كندا دولة عاقلة وعادلة وغالباً فوق طبائع البشر في المساواة واحترام الآخر وتقديس القانون. لكي نفهم روح كندا وعلو دستورها، يجب أن ننتبه الى أن مفتاح عاصمتها لم يُعط للمغترب الأكثر ثراء، بل للذي مثلها، الاكثر بساطة والأفضل سلوكاً، والأكثر بعداً عن سخف النزاعات وتفاهة التكبر والغطرسة والادعاء.
اعطي منير عطاالله، صاحب مطعم في حي وسينبورو، مفتاح أوتاوا، لأنه يشبهها، ويقاسم فقراءها البيتزا، ويتبرع لحزبيها الرئيسيين بالتساوي. وكان من رواد مطعمه الدائمين، مارغريت ترودو، والدة رئيس الوزراء الحالي ومطلقة رئيس الوزراء سابقاً، وايضاً الحاكم العام السيدة ادريان كلاركسون.
وأيضاً يجب الاسراع في التوضيح ان سعر وجبة كلاركسون لم يزد يوماً على 5 دولارات. وكلما حاول منير استضافتها، ترفض ضاحكة: “لن يتمكن اللبنانيون من رشوة الحاكم العام”.
ربما في بلدان أخرى. ربما في بلدان الصوت التفضيلي. لكن هنا، في أكبر بلدان العالم مساحة بعد الروسيا، يمكن أن يكون الحاكم من جذور صينية أو من هايتي، ويفضل ان يكون سيدة كما درج الأمر في السنوات الأخيرة، عملاً بقول محيي الدين بن عربي، ما لا يؤنث لا يعوَّل عليه.
ينجح اللبنانيون في بلاد الاغتراب عندما يمنحهم القانون الفرص المتعادلة بصرف النظر عن الحقول التي هم فيها. وفي البرلمان المبني على طريقة وستمنستر بقبة فستقية جميلة، خمسة لبنانيين على الأقل فازوا بصوت الاستحقاق، وليس باصوات البدع المحرضة على القسمة والثأر مثل الصوت التفضيلي الذي يجعل من التفضيل أحياناً تشويهاً وطنياً دون المائة صوت.
حوَّل المغتربون الى الوطن الأم 8 مليارات دولار هذا العام. وحموا أهلهم من الافلاس والمجاعة والذل خلال الحرب، فيما كانت أموال الغرائز تنهمر على لبنان من كل صوب من أجل قتله، ولم تستطع مليارات “قائد”، مثل معمر القذافي، دفع المزيد من اللبنانيين الى البحر، بسبب مساعدات الصمود البسيطة التي كان يرسلها المغتربون، غالباً من رواتبهم والتوفير، وليس الوفرة.
هم السند غير المرئي في الحرب وفي السلم. ومنذ الهجرات الأولى وملاحم السفر وكشة الابر والخيطان التي حملها جدي – وجد منير – تامر شاكر في التمبيكو، قبل ان يصبح عاملاً لدى “بويك” في لانسنغ، ميتشيغان. وإلى هناك، نقل شقيقته وأشقاءه جميعاً. فلما اطمأن إليهم، عاد إلى حنينه المضحك بين الصنوبر والسنديان. وظل والدي حتى وفاته، يضحك منه بمرارة كلما اهتز البلد كالريشة أو كثر الانبياء الكذابون، فيقول لي ساخراً: “عجبك جدك. لم يكن يليق به ان تولد في فلنت ميتشيغان، فاصر على أن تولد في بتدين اللقش”.
جميعنا كررنا حنين جدي، إلا منير، الذي خُطِف اول الحرب بتهمة “تهريب” الشيعة في سيارته من الاشرفية. ونحن مدينون لادمون رزق بعودته. هي، على عظمتها، ليست أقل افضال الصديق الكبير علينا كعائلة أو ابناء منطقة.
دائماً تختار جزين خير من عندها لساحة النجمة، خسرت أم ربحت. وأنا نادم في سري على أيام اخذتنا العاطفة الصغيرة النفور من الاقطاع ضد مارون كنعان وفريد سرحال، مع انني لست نادماً اطلاقاً على العاطفة التي اخذتنا الى ابراهيم عازار (الجد) و جان عزيز.
لذلك، تعمدت منذ عقود أن نقسم اصوات عائلتنا الصغيرة بين البطين الايمن والبطين الايسر. نحتفل مع الفائزين ونأسى للذين بَعُدَ الحظ عنهم. فالمسألة ليست أكثر من ذلك في نهاية المطاف. ومنذ طفولتي الى اليوم، لا نزال نعتز بأن جزين هي المنطقة التي لا يقع فيها حادث مهما جاشت العواطف وتباعدت المواقف.
وما دمنا في هذه الحميميات والعائلات ومعاني الاغتراب، أحب ان أوجه ملاحظة الى راعي الرعاة، وطنا ومهجراُ، ميشال اده ومعاونه ومواطني شارل الحاج، أن استخدام كلمة “الانتشار” بدل الاغتراب، صيغة مهينة للجميع. مهينة، أولاً، للأوطان التي اختارها ابناؤنا. فهم لم يذهبوا “لينتشروا” فيها، بل ذهبوا بخيارهم الى وطن آخر. وهذا الوطن يقدم لهم، مثل الأول، الحياة والتراب والاجيال، فهل نستكثر عليه أنه “مغترب”؟.
حافظ الموارنة على اللغة العربية مثل جفونهم. وكلمة “انتشار” خطأ شديد ومسيء الى معنى الوطن الجديد، وكأننا برابرة زحفنا للانتشار فيه. أو كأننا وباء. فهل نقول في صيغة المفرد، المنتشر جبران خليل جبران، والانتشاري رالف نادر، أو اربعة ملايين منتشر في البرازيل؟
على علمنا يا مولانا العزيز “منتشر” ليست للبشر. ولك في مراجع كبار الموارنة وسواهم ما ليس لدى أحد: واليازجيان ناصيف وابراهيم، والارسلانيان شكيب وفؤاد، والشدياق احمد فارس. والشيخ رشيد الشرتوني. والشيخ نجيب الحداد. والمعلم شاكر شقير. وهذا بعض ممن عدَّد أمين نخلة في “الندوة اللبنانية” يوم كانت وكان لبنان لسان العرب. إي والله.