
سمير ناصيف
القدس العربي
05022023
عدد كبير من المؤرخين وعلماء الاجتماع والاختصاصيين في العلوم السياسية كتبوا عن تاريخ لبنان في السنوات الخمسين الأخيرة، غير ان النسبة الأكبر منهم اختارت التركيز على ان العامل الأساسي في التطورات والأزمات في هذا البلد كان وما زال العامل الطائفي، وان صراعات الطوائف هي المشكلة الرئيسية التي تنبثق عنها المشاكل الأخرى في لبنان.
أما الدكتور مسعود ضاهر، وهو أحد أبرز أساتذة التاريخ والعلوم الاجتماعية والإنسانية والسياسية في الجامعة اللبنانية والمحاضر في عدد من كبار جامعات العالم، فقد عالج هذا الموضوع من منظار آخر في كتابه «تاريخ لبنان الاجتماعي المعاصر، خارج القيد الطائفي» إذ ركز على دور الفساد المتفشي لدى الطغمة الحاكمة والطامعة بالاستيلاء على المزيد من أموال الدولة والشعب خلال الانهيار الاقتصادي والمالي والسياسي في البلد، وعلى أن هذه الطغمة التي لا يتجاوز عدد قادتها عدد أصابع اليد، تغطي فسادها بالاحتماء وراء العوامل الطائفية وبالادعاء بانها تدافع عن مصالح أبناء طوائفها.
يستهل الدكتور ضاهر كتابه بمقدمة يورد فيها «أثبتت الدراسات العلمية التاريخية ان الإمارة اللبنانية لم تعرف نزاعات طائفية إلا بعد تقسيمها إلى قائمقاميتين بناء على مشروع أوروبي أجنبي لخدمة مشروع استعماري رعته فرنسا وبريطانيا لتفكيك السلطنة العثمانية من الداخل تمهيداً للسيطرة عليها. وطوال العهد العثماني، الذي تجاوز الأربعمئة سنة، لم يكن بإمكان الطائفية أن تتحول إلى نظام سياسي. وكان الهدف من رعاية أوروبا الاستعمارية هو التأسيس لفوضى عارمة في بلاد الشام تبدأ بتفكيك وحدة اللبنانيين وإذلالهم وإفقارهم. وبعد أكثر من مئة عام، يعاني اللبنانيون اليوم من تحالف منظومة سياسية ومالية وطائفية فاسدة تدّعي حماية طوائفها لتصادر أموالهم وتمعن في افقارهم». (ص 10 ـ 11).
ويضيف: «إن توصيف النظام الدستوري اللبناني بانه في أساسه نظام طائفي يُعتبر تشويهاً مقصوداً لتاريخ لبنان المعاصر. إن النظام اللبناني نظام طوائفي وليس طائفياً. فلم يتضمن الدستور اللبناني لعام 1926 إشارة إلى الطائفية إلا من باب الحرص على التوازن الوظيفي بصورة مؤقتة. الطائفية هي من تحريفات سمات لبنان الاجتماعية التي طبعت الدستور والنظام بطابعها فأدخلها قادة لبنان قسراً في النظام السياسي». (ص 12ـ13).
ويعتبر ضاهر أن «إضافة صفة الطائفية على النظام اللبناني، كما تأسس في الدستور، غير مبررة وهي مناقضة لعلم السياسة، والقول بضرورة المحاصصة الطائفية لضمان العيش المشترك خاطئ، كما ان مفهوم الديمقراطية التوافقية حوّل الديمقراطية إلى ديكتاتورية مقنعة في خدمة زعماء الطوائف وقادة الميليشيات المعسكرة. والنظام السياسي اللبناني الطائفي التوجه يصعب تجاوزه إلا بقيام نقيضه، أي لبنان خارج القيد الطائفي». (ص 14).
ويطرح السؤال التالي: «كيف نقرأ تاريخ لبنان الاجتماعي بعد مرور مئة عام على قيام دولة لبنان الكبير؟».
ويجيب: «باستثناء الإصلاحات التي طرحها ونفذها نظام الرئيس الراحل فؤاد شهاب والتي أجهضها زعماء فاسدون بنوا ثروات طائلة عن طريق السمسرة واستغلال النفوذ، فقد انحدر مستوى الأداء السياسي للنظام اللبناني إلى الحدود الدنيا، فقد استخدموا رعايا طوائفهم لخدمة مصالحهم الشخصية وافتعلوا نزاعات طائفية لضرب قوى التغيير الديمقراطي، وهم (آكلة الجبنة) وفق توصيف الرئيس شهاب». (ص 18).
وبرأي المؤلف «فقد عانى اللبنانيون الأزمات وتعرضوا للعنف بكل أشكاله في زمن الحرب الأهلية واتفاق الطائف الذي وُقّع في السعودية في نهاية عام 1989 وأُضيف إلى الدستور. وحاول اللبنانيون تصحيح المسار، فانطلقت تحركات شعبية قاد معظمها العنصر الشبابي، ولكن تبعها الانفجار المريع في مرفأ بيروت وما سبقه وأعقبه من سرقة أموال المودعين في المصارف وإذلال اللبنانيين وتجويعهم بالتزامن مع استمرار التجهيل والبطالة والتلوث وسيطرة الاحتكارات والمافيات في مختلف المجالات ولم تتم حتى الساعة محاكمة الفاسدين بين المسؤولين الكُثُر برغم إنشاء محاكم صوّرية أنشئت لهذا الهدف».
أحد أهداف الكتاب كان تأكيد الوجه المزدوج للنظام السياسي اللبناني فهو برأيه: «نظام جمهوري يتبنى الديمقراطية لكن قادته يمارسون الديكتاتورية المقنعة، وهو نظام علماني وفق بنود الدستور لكن قادته جعلوا من الطائفية سلاحاً رهيباً لإذلال اللبنانيين وتهميش الدستور. فانبرى عدد كبير من رجال الدين للدفاع عن قوى سلطوية ونظام استبدادي. ما يحول دون قيام أي إصلاح حقيقي لمصلحة اللبنانيين على اختلاف طوائفهم». (ص 23).
ويصف قادة النظام بأنهم: «يدعمون كبار المحتكرين وقادة مافيات البنزين والمازوت والغاز والدواء وأصحاب مولدات الكهرباء واللصوص بين أصحاب القرار في البنوك المدعومين سياسياً والذين صادروا أموال المودعين من دون محاسبة». كما يتهم القضاء بالتقاعس عن «محاكمة المجرمين الذين تسببوا بمجزرة مرفأ بيروت وعن معاقبة ناهبي أموال المودعين». ويضيف: «ان هذه الطبقة السياسية والاقتصادية المتحالفة مع قيادات ميليشياوية أنهكت الطوائف بنزاعات دموية لم تستفد منها سوى هي وزعماؤها وإسرائيل وخصوم لبنان». (ص25).
في الفصل الخامس يقول ضاهر: «ان اتفاق الطائف سمح لأمراء الحرب في لبنان بالمشاركة (الرسمية) الفاعلة في السلطة بعد أن كانت بعض القوى السياسية ترفض الاعتراف بوثيقة الطائف التي ألزمت بعض الزعامات على التنازل عن مواقع كانت تعتبرها مكتسبات لها لا يجوز التنازل عنها، وخاصة تلك التي أضعفت صلاحيات رئيس الجمهورية. ونجح الاتفاق مرحليا في وقف الحرب دون أن يحصن الساحة اللبنانية لمنع تجددها، ما استدعى مراراً تدخلات إقليمية (منها اتفاق الدوحة لعام 2008) لتفادي انهيار نظام الحكم في لبنان، لكن مؤسساته أصيبت بالشلل على مختلف الصعد الحكومية والبرلمانية والإدارية والتربوية تحت حكم قادة الميليشيات المسلحة (سابقاً وحالياً) التي هيمنت على موارد الدولة وتحكمت بمصالح جميع المواطنين اللبنانيين». (ص 328).
ويعتبر ضاهر ان الدولة اللبنانية «استرجعت مركزيتها نسبياً بموجب اتفاق الطائف. ولكن تبين من خلال الممارسة السياسية ان زعماء الموالاة والمعارضة من قادة الميليشيات هما وجهان لعملة واحدة من حيث التجاذب السياسي الذي يعطل انتظام الحكم. فالجميع يبحث عن مصالح شخصية ضيقة على حساب بناء الدولة ومؤسساتها». (ص 328 أيضا).
ولعل ما قاله الراحل (مؤخراً) رئيس مجلس النواب اللبناني السابق حسين الحسيني يدوي صداه هذه الأيام بشكل كبير، حيث يؤكد هذا الكتاب ما قاله الحسيني مراراً بان: «تطبيق اتفاق الطائف تعثر بسبب هيمنة النزاعات المذهبية لدى قادة العصبيات ما حال دون تنفيذ غالبية البنود الاصلاحية فيه» (ص 329). علماً بان الحسيني، والذي كان أحد عرابي اتفاق الطائف ورئيساً لمجلس النواب اللبناني بين عامي 1984 و1992 استقال من منصبه النيابي عام 2008 بسبب خلافه مع زعماء الميليشيات في مجلس النواب وعدم قدرته على تمثيل المجموعة اللبنانية المعتدلة التي انتخبته.
ويشير المؤلف إلى ان دستور اتفاق الطائف الجديد لعام 1992 تضمن الكثير من بنود الدستور اللبناني القديم مع إدخال تعديلات جذرية عليه، لكن النهج الذي اعتُمد في تطبيق التعديلات قام على الانتماء المذهبي على حساب الوطني، فترسخت طائفية الرئاسات الثلاث (الجمهورية والمجلس النيابي والحكومة) وانتشرت الممارسة الكيدية وأجهضت المصالح الشخصية للزعماء جميع مشاريع الإصلاح السياسي والإداري والاقتصادي والاجتماعي وتعممت على نطاق واسع ثقافة الفساد والإفساد». (ص 330).
ويضيف: «بادر تحالف قادة الميليشيات الطائفية وأصحاب البنوك والاحتكارات الكبيرة إلى تشكيل منظومة عريضة تمارس الفساد والإفساد، واستخدمت أجهزة الدولة القمعية لضرب النقابات العمالية والمهنية والقوى الشبابية المطالبة بالإصلاح الديمقراطي ولإفشال تحركات الأحزاب العلمانية والليبرالية وتغييب النضال الوطني ضد حماة الرأسمالية الريعية غير المنتجة التي أبقت الاقتصاد المنتج من دون حماية أو رعاية من الحكومات اللبنانية المتعاقبة. ولم تُبصر النور الإصلاحات التشريعية والتنفيذية والقضائية التي طالب اتفاق الطائف وواضعوه بها». (ص 330 أيضا) (وبينهم الراحل حسين الحسيني طبعاً).
ويضيف: «منعت المنظومة السياسية الفاسدة تطبيق جميع البنود الإصلاحية التي دونت في دستور الطائف وأمعنت في استخدام المحاصصة المذهبية إلى الحدود القصوى واخترعت أعرافاً جديدة تحت ستار الحفاظ على الميثاقية والتوافقية والعيش المشترك، ومنها تخصيص وزارات معينة لطوائف معينة وشرعية الزعيم الميليشياوي الطائفي في تمثيل طائفته ومبدأ الثلث المعطل لقرارات مجلس الوزراء، وأقرت كماً هائلاً من القوانين التي تحمي كبار الفاسدين من الوزراء والنواب وأصحاب المراكز المالية الرئيسية والاحتكاريين ومستغلي أوجاع الغالبية الساحقة من اللبنانيين». (ص 331).
وفي الفصلين الثاني والثالث عن دولة الميثاق الوطني والمحاصصة الطائفية ومواجهة المجتمع اللبناني للطائفية، يشير المؤلف إلى إعدام مؤسس الحزب السوري القومي الاجتماعي الزعيم اللبناني أنطون سعادة في عام 1949 بتواطؤ من رئيس النظام السوري آنذاك حسني الزعيم وحلفائه في القيادة اللبنانية بعد محاكمة صورية في لبنان. وهنا يحاول المؤلف تجنب إدانة قادة النظام اللبناني آنذاك في هذه الجريمة عَبر الإشارة إلى عروبة الرئيسين بشارة الخوري ورياض الصلح، حيث يقول: «دافعَ رياض الصلح عن الكيان اللبناني، فاتهموه بالتخلي عن العروبة فتآمروا عليه وحاولوا قتله مراراً إلى أن تمكنوا منه بينما هو عمل على صيانة العيش المشترك وتوحيد اللبنانيين». (ص 139). علماً أن الصلح وبشارة الخوري كانا يؤيدان محوراً إقليمياً ودولياً على حساب محورٍ آخر، كما هو الأمر حالياً في التبعية للمحاور الخارجية في الوضع اللبناني. آنذاك، كانت فرنسا تتنافس مع بريطانيا في النفوذ على المنطقة وفي استثمار خيراتها، كما تنافست معهما روسيا الشيوعية وأمريكا المنافسة لها. حالياً، هناك محورٌ إسرائيلي ـ أمريكي، وإلى جانبه محور خليجي عربي يؤيد التطبيع مع إسرائيل، ومحور إيراني ـ سوري ـ فلسطيني يعارض التطبيع. وقسم كبير من هذا التنافس يؤثر سلباً ويساهم في توتير أوضاع لبنان.
وكما يدرك المؤلف فإن مصائب الشعب اللبناني الحالية (حسب موقف المفكر اللبناني جورج قرم الذي يشاركه فيه ضاهر) هي من افتعال العدو الأساسي الرئيسي والفعلي للبنان المتمثل بدولة إسرائيل العنصرية الاستيطانية المعادية لنموذج التعايش اللبناني.
مسعود ضاهر: «تاريخ لبنان الاجتماعي المعاصر (خارج القيد الطائفي)»
دار النهار للنشر، بيروت 2020
430 صفحة.