
- سمير عطاالله
- 10 حزيران 2020 | 00:05
- النهار
“أقام أهل اسبارطة المتجهٍّمون، مذبحاً لإله الضحك”.
كانتزاكيس

كانوا قلّة في اليمين، وندرة في اليسار. رجال تتمنى ان يكونوا اصدقاءك أو خصومك. محسن ابرهيم كان سيّد الأفق الوسيع في عالم الايديولوجيات المطبق على الصدر بقواعده الصارمة، وأبوابه المغلقة.
كانت شروط الايديولوجيا يومها، شوارب غليظة معكوفة على طريقة ستالين. وتجهم دائم مثل الذاهب إلى مجزرة أو العائد منها. وجمل طويلة ملفوفة ومنسوبة الى صاحب اسم بلشفي رنان.
محسن ابرهيم، مشرقاً بالومضات المتلاحقة، كان الصورة المعاكسة. كثافة الفكر وخفة الحضور. ابتسامة مولود، مثل سائر مواهبه. وجملة قصيرة، جلية ومباشرة مثل جملة البير كامو، وجميع من نشأوا في الأرياف، حيث لا غموض ولا التباس في حركة الحياة.
كان هذا الغائب الكبير حضوراً من الفطنة والظرف والشجاعة القومية. وكلها من عطيات الجنوب، حيث يولد المرء وقبالته لوعة فلسطين فيكون قومياً، وينشأ في محيط شديد الحرمان، فاقع الاقطاع، فيصبح يسارياً بالنشأة. محسن ابرهيم رفع مستوى الالتزام للمسألتين. اعتنقهما وظل محاوراً. ووقع الكبار والصغار في سحر فطنته ولماحته، بدءا بجمال عبد الناصر، الذي أحبه كاتباً ومفكراً – ومثل أي مصري – خفيف الظل في كآبات العرب. ومن ثم مات عبد الناصر فانتقل “أبو خالد” الى العمل الى جانب ياسر عرفات وكمال جنبلاط. دائماً على مستوى القادة في الجدل والنقاش. دائماً في شجاعة الرأي. دائماً في شجاعة المراجعة ونقد الذات.
لم يحدث أن أعلنت دولة الحداد الرسمي على فرد بلا منصب كما فعل الرئيس محمود عباس في غياب محسن ابرهيم. وبعد وفاة عرفات استمرت الصداقة من خلال “أبو مازن”. وترك ابرهيم العمل السياسي بعد حسم النزاع السوري الفلسطيني في لبنان، لكن المودة الشخصية مع القيادات الفلسطينية ظلت على ما هي. ويخيل اليّ ان المكالمات مع “أبو مازن” كانت دائمة، خصوصاً من خلال صديق الإثنين، المحامي والديبلوماسي باسل عقل.
اعتزل “أبو خالد” بعدما أدرك ان العمل القومي قد دخل نفق الخيبة الطويل، وان العمل السياسي في لبنان قد اختل وتصدَّع يميناً ويساراً. قُتل كمال جنبلاط، وسافر ريمون اده الى منفاه الاختياري، واعتكف المستقلون وأصحاب الكرامات، بعيداً من ثقافة جديدة اكتسحت البلد: طوابير الاسترضاء والتملّق. بل بزّ اللبنانيون كل شعوب الأرض بالسجود على المنابر، تمنناً بعطايا المقاعد.
لم يبق للمعارضة الكريمة الكثير. بعض مفاكهات “أبو خالد”، أو نده الآخر في المنفى الداخلي، منح الصلح. كلاهما استبقى فطنة الظرف حتى اللحظة الاخيرة، وغياب “أبو خالد” يسدل الستار على الابتسامة الحاضرة في السياسة والصحافة، حيث كانت النكتة اللماحة تتصدر المجالس، بدل البذاءة الفجّة التي شاعت في السنوات الأخيرة.
كان لبنان يضحك مع الالمعية والذكاء. يضحك مع رياض الصلح، ومع شارل حلو، ومع سعيد فريحة، ومع اسكندر رياشي، ومع كاريكاتور الصحف، ومع “مسرح الساعة العاشرة” ومع “مسرح فاروق”. وكان ينفجر ضحكاً مع شوشو وأخوت شانيه ووسيم طبارة. ما هذا الجفاف… ما هذا المحل؟
أعاد محسن ابرهيم النظر في اشياء كثيرة، خصوصاً في الحرب. ولو عاش كمال جنبلاط لتأمل أكثر في المسيرة التي أوصلتنا جميعاً إلى حرب داخلية. لكن تولى ذلك الى حد بعيد، وفي شجاعة كبرى، وليد جنبلاط من بعده. لا أريد القول إن اليمين لم يكن مشحوناً بالاخطاء، ومكدساً بالرعونات، لم يكن أحد على حق في ذلك المهرجان الدموي الذي انتهى الى 150 ألف قتيل واتفاق يُنكِّل بكل معاني الحياة السياسية، كما الفناها في مائة سنة.
مائة سنة فيها من الجمال أكثر مما طرأ عليها من بشاعة. فيها خير ورخاء وازدهار ورضاء. وفيها عبقريات ومكانات ومراتب. وفيها حسن بالتاريخ واحساس بالناس وآلامها. وفي هذا وحده كان يمكن الشيوعي محسن ابرهيم أن يصبح زعيماً شعبياً. ففي مصر وضعهم عبد الناصر في السجون. وفي العراق سُحٍلوا في الشوارع. وفي سوريا جمع رفاق رياض الترك في السجن قطعاً من بطانياتهم لصنع حٍرام ينام عليه.
فقط في هذا الكيان الانعزالي الذيلي الرجعي المنحرف، كانت لهم صحفهم ومؤتمراتهم ومنابرهم وكرسيهم في الجامعات. بل رئاستها أيضاً.
كان نظاماً متسعاً للجميع. مَعرض دائم للأفكار. وفي إمكان ايٍ كان ان يشتري جريدته أو ان يصدرها. أحياناً كان هذا المعرض فولكلورياً. بائع جرائد ينادي على فضيحة فنانة أو يهدد مليونيراً. لكن هذه اللغة التي نغرق في وحولها الآن، كانت عيباً لا يليق بأحد. لا بفرد ولا بحزب ولا بجماعة، ولا حتى بزمرة.
دمَّرت هذه اللغة السوقية المؤسسات والبيوت وروح الألفة وتقاليد السماح والتراحم بين الناس. دمّر الزعران بقايا الأعمدة التي كنا نتمسك بها لإبقاء شيء من جمال هذه الجوهرة المطمورة تحت الزبالة في انتظار التأكد من الحصص.
أي نظام آخر يتسع لأهله ولملايين النازحين معاً؟ هل يكون “استبدادياً” البلد الذي أسس على معاني الدستور؟ البلد الذي استقال واعتزل رئيس جمهوريته اعتذاراً من تزوير انتخابات؟ عندما كان لبنان يزدهر في نظامه، كان محاطاً بعالم عربي يجرّب التأميم والحراسة وجميع أنواع الإفقار في سبيل العدالة الاجتماعية. وفي صورة دائمة عثر نصف مليون عامل وعاملة على رزقهم هنا، بينما كان العراق، بلد النفط والنهرين، يعاني أزمة عدس. هو والجماهيرية العظمى الاشتراكية الشعبية الليبية وكتابها الأخضر، الذي كشف للإنسانية تلك الحقيقة المذهلة: الرجل ذكر، والمرأة أنثى.
الأمة العربية منكوبة بخاطفي ارادات الشعوب. تدخَّل معمر القذافي حتى في شؤون الغناء. واعترض على أم كلثوم، اجمل وأعمق ظاهرة في طرب العرب.
عاش “أبو خالد” في زمن الذبول. كآبة وفراغ على مدى الأفق. في ذروة العداء ظل محاوراً مثل ذوي العقول والافلاطونيين. لم يَحردْ ولم ينتحر ولم يقاطع ولم يصد خصماً. كان الفكر في زمنه شاغلاً من شواغل السياسيين والناس. وكان الذكاء والثقافة فرضاً من فروض الحياة الاجتماعية، سواء كنت الرأسمالي شارل قرم، أم الاشتراكي كمال جنبلاط، أم الحائر بينهما تقي الدين الصلح. لقد كانت لك الحرية في ان تكون من تريد ان تكون، شرط توافر الألمعية والقيَم. كل الزعماء العرب تدثروا بالقضية الفلسطينية لأهداف أخرى، إلا هنا فقد كانت قضية صادقين. رجال مثل “أبو خالد” ممتلئون بصدق قومي. وقد غاب والعالم في زمن ترامب وصهره والصفقة وضم الضفة الغربية. لن تمر. ليس لأن العرب لن يدعوها، بل لأن الغرب لم يخلُ بعد من ايمانويل ماكرون ونانسي بيلوسي وجو بايدن. قالت المسز بيلوسي إن ضم الضفة يهدد الأمن القومي الأميركي. ثمة رجل غاضب متوتر على الدوام يهدد الأمن القومي الاميركي. رئيس لم نره يوماً يبتسم لشيء، أو يمتدح أحداً سوى نفسه. وأول رئيس دولة نراه يحرد مثل الاطفال، ويدير ظهره لمحادثة، ويرفض المصافحة، ويدير سياسة العالم على “تويتر” بكامل الاخطاء الاملائية. قادة العالم كانت ميزتهم الظرف والفطنة.
دوايت ايزنهاور وجون كينيدي ورونالد ريغان وبيل كلنتون سحروا أميركا بابتسامتهم. يوم السبت الماضي كان عنوان مقال الدكتور محمد الرميحي في “الشرق الأوسط”: من يعيد الابتسامة إلى لبنان! مساء ذلك اليوم كان لبنان بين عين الرمانة والطريق الجديدة، وكانت الابتسامة في العمل السياسي تطوى في كفن محسن ابرهيم.