الخميس 2023/02/02محمد حجيري
Almodon.com

المؤرخ اسطفان الدويهي احد أبرز وجوه مدرسة روما
في روايته “حياة واحتمالات”، اختار الروائي الفرانكوفوني شريف مجدلاني، أن يعود إلى زمن مدرسة روما المارونية… رافائيل (أو رافايللو)، وهو الشكل الإيطالي اللاتيني للاسم العربي روفيل، سافر إلى روما العام 1621، من مسقط رأسه في جبل لبنان، ليدخل في خدمة البابوية. رواية تأخذ القارئ من روما إلى البندقية، من اسطنبول إلى أصفهان، من فيتشنزا إلى باريس إلى أمستردام. خلال رحلته غير المنتظمة، سيصادف رافائيل عائلة باربيريني وباباواتها، ورامبرانت. وكان بإمكانه، إذا أراد الروائي، أن يأتي حتى عبر ديكارت، أو جاليليو، فقد كان الوقت غنيًا ووفيرًا. “أردت إنشاء شخصية تدور في هذا النوع من السماوات الفكرية في القرن السابع عشر، بداية العصر الحديث حين بدأت ولادة الفرد” يقول مجدلاني. روايةٌ تعبر التاريخ والجغرافيا وتخوض في المغامرات وتغوص في العلوم والفلك والثقافات… حكاية عن شاب مفتون بالإنسانية الأوروبية، سيسعى دائماً للحصول على مكان في العالم، باحثاً عن السعادة. ويجب من أجل تحقيقها أن يتحرّر من القوانين والمعرفة القديمة، والرواية وجه من وجوه لبنان البدايات.
وفي كتابه “المِرآةُ المتكسرة”(دار رياض الريس) يتناول الباحث سهيل القش، مجموعة من السرديات، ومنها السردية اللبنانية، ويؤكد على التمييز بين “لبنان” ككيان يتصف أحياناً بإجماع مكوناته الطائفية، وبين “اللبنانوية” كتعبير إيديولوجي عن قومية لبنانية مارونية، ما انفكت تعمق الانقسام بين اللبنانيين، وهي وجه من وجوه قوميات مختلفة ومتناقضة ومتخاصمة، الى جانب السورية والعربية.
يشير القش إلى أنه إذا كانت ولادة الطائفة المارونية، التي بدأت مع مجمع اللويزة العام 1736، قد سبقت ولادة لبنان ككيان العام 1920، فإن النص اللبنانوي الماروني قد سبق هذين الحدثين ومهّد لهما منذ نهاية القرن السادس عشر وبدايات القرن التاسع عشر. بغض النظر عن الفتح العربي وما تبعه من محطّات يصعب معها تمييز الوقائع التاريخية عن السرد الإيديولوجي لحقبات تمتدّ من المردة مروراً بالصليبيين، فقد درجت الكنيسة المارونية على إيلاء مدرسة روما المارونية دوراً تأسيسياً في نشوء النص الماروني اللبنانوي. يندرج نشوء هذا النص الايديولوجي ضمن استراتيجية كنيسة روما الكاثوليكية الساعية إلى لمّ شتات الكنائس الشرقية ولَتيَنتها (نسبة إلى اللاتينية).
وتقاطعت هذه الاستراتجية البابوية مع تبلور استشراق ايديولوجي فرنسي، بدأ، في معالجته لـ”المسألة الشرقية”، يبني استراتيجيته على إضعاف السلطة المركزية العثمانية وتفتيتها عبر الأقليات الدينية والاثنية. والاستراتيجية البابوية ارتكزتْ أساساً على حدثين بارزين تركا آثاراً عميقة في العالم المسيحي الغربي في القرنين الخامس عشر والسادس عشر. تمثّل الحدث الأول في سقوط القسطنطينية العام 1453 واستتباعها من قبل العثمانيين. وكان من نتائج سقوط الامبراطورية البيزنطية في أيدي المسلمين، أن تجذَّر الخلاف القائم أصلاً بين كنيسة روما الكاثوليكية وكنيسة بيزنطة التي تتهم روما بتخاذلها في الدفاع عن “قِبلة الروم” ومنعها من السقوط في أيدي العثمانيين. وأدى هذا الخلاف إلى القطيعة بين الكنيستين. أما الحدث الثاني، فداخل أوروبا، وتمثّل بالقطيعة النهائية بين كنيسة روما الكاثوليكية والبروتستانية التي يقودها مارتن لوثر.
وغداة انعقاد المجمع المسكوني التاسع عشر بين العامين 1545 و1563، اطلق عليه اسم مجمع الاصلاح الكاثوليكي المضادّ الذي شكل رداً على الإصلاح البروتستانتي، وقد انبثقت منه في ما بعد مؤسستان جديدتان سيكون لهما تأثير مباشر في النص الماروني اللبنانوي في نهاية القرن السادس عشر من جهة، وبتحول “الملّة” المارونية إلى “طائفة” في القرن الثامن عشر والقرن التاسع عشر من جهة ثانية.
المؤسسة الأولى تمثلت في مدرسة روما المارونية التي تأسست العام 1584، وتركز دورها على لَتيَنَة الطائفة المارونية وتأهيل نخبتها الكهنوتية الى نواة لقيادة الطائفة المارونية التي ستولد من رحم الملّة بعد أكثر من قرن. اعقبت مدرسة روما المارونية، “جمعية نشر الإيمان الكاثوليكي بين الشعوب” التي أسسها العام 1622 البابا غريغوريوس الخامس عشر. وفي تناولهم الإرساليات الفرنسي ودورها التعليمي في سوريا ولبنان، قلّما أولى معظم المؤرخين اللبنانيين الاهتمام الذي تستحقه للمؤسسات التي رعت هذه الارساليات، أو الفلسفة التي بررت إنشاءها. وحدها الكنيسة المارونية ما انفكت تؤكّد الدور الذي قامت به مدرسة روما المارونية، وبين هاتين المؤسستين اللتين أنشأتهما كنيسة روما الكاثوليكية، برزت المكونات الايديولوجية الأولى للقومية اللبنانية المرادفة للنص الماروني، وقد تخلّل هذين الحدثين لجوء الأمير فخر الدين المعني الثاني الى فلورنسا بين 1613–1618، هرباً من انتقام السلطنة العثمانية.
ويذكر سهيل القش بأن النص الماروني في بداياته، كما الاستشراق الفرنسي والبابوي، تحدث غالباً عن لبنان كمرادف للملّة أو الطائفة او الأمة أو الشعب الماروني (الشعب المسيحي بتعبير أنسي الحاج)، وذلك من دون تمييز بين هذه المفاهيم التي ستتبلور لاحقاً، أو حشر فخر الدين الدرزي قسراً في مكونات الشعب الماروني من جهة أخرى. في هذا المجال، نذكر أن المؤرخ كمال الصليبي في كتابه “بيت بمنازل كثيرة” لاحظ كيف فجرت المليشيات الدرزية نُصب فخر الدين في بعقلين لأنه كان يمثل “المارونية السياسية” بينما بقيت صورته معلّقة لأنها تمثّل “الدرزية السياسية”. وفخر الدين شخصية درزية اختلف المؤرخون في شأن تاريخها ودورها ووجودها، وأمعن بعض المؤرخين المسيحيين في “تمجيدها” وفي تضخيمها خدمة لأغراض سياسية، فمؤرخ الموارنة البطريرك اسطفان الدويهي (1629 ـ 1704) يقول: “وفي دول فخر الدين ارتفع رأس النصارى، عمّروا الكنائس وركبوا الخيل بسروج ولفوا شاشات وكرور، لبسوا طوامين وزنانير مستقطة وحملوا القاص والبندق المجوهرة. وقدموا المرسلين من بلاد الفرنج وأخذوا السكنة في جبل لبنان. لكون غالب عسكره كانوا نصارى، وكواخيه وخدامه موارنة”.
وبغض النظر عن جدلية فخر الدين ودوره واعتباره أبرز مؤسسي الكيان اللبناني، أو اعتباره شخصية وهمية من بعضهم، ينقل سهيل القش عن الباحث والشاعر أنطوان الدويهي أن مدرسة روما المارونية شكّلت المؤسسة الأهم في تاريخ لبنان الثقافي منذ القرن السادس عشر حتى القرن التاسع عشر، لـ”تكمل دورها في كل من كلية عين ورقة، ثم الجامعة الأميركية وجامعة القديس يوسف في بيروت”. وفي هذا السياق يذكر كمال الصليبي أن بعض خريجي روما عادوا الى الوطن بعد إكمال دراستهم ليصبحوا رجال كنيسة أو معلمين لأبناء قراهم. وأسس أحد هؤلاء في العام 1734 مدرسة “عينطورة” في كسروان، وأسس آخر في العام 1774 مدرسة “عين ورقة” في المنطقة نفسها، التي أطلق عليها القاص مارون عبود اسم “سوربون الشرق”. وكانت هاتان المدرستان لاهوتيتين في البداية، لكنهما كانتا تحتويان على منهج تدريس علماني أصبح هو الأهم بمرور الزمن، وهو الذي طبع التعليم العربي التقليدي في البلاد للمرة الأولى -وكان محصوراً في طائفة معينة- بطابع تعليمي من النوع الأوروبي. وعرف من بين خريجي مدرسة عين ورقة، بشكل خاص، أبرز شخصيات حركة النهضة الأدبية العربية التي ازدهرت في بيروت في القرن التاسع عشر. في حين أنّ مدرسة روما المارونية كانت تستهدف السلك الكهنوتي الماروني وإنتاج نخبة الكنيسة المارونية، منهم اللغوي جورج عميرة، والمؤرخ اسطفان الدويهي، وحافظ المخطوطات يوسف السمعاني، والمترجم جبرائيل الصهيوني، والمترجم ابراهيم الحاقلاني. وشكلت تجربة مدرسة روما المارونية نموذجاً مختلفاً للعلاقة بين العرب والغرب. فالطالب الماروني اللبناني في هذه المدرسة، بدءاً من العام 1584 لم تشغله تساؤلات مقلقة عن حسنات الحداثة الغربية وسيئاتها، إذ كان يعتبر نفسه أصلاً جزءاً من الحضارة الغربية المسيحية، وإقامته في روما أو باريس ليست مؤقتة كالطلاب الذي أرسلهم محمد علي باشا من مصر للتحصيل العلمي في باريس لفترة محدّدة.
ويقول كمال الصليبي: “موارنة لبنان هم أول من تقبل التأثيرات الغربية في البداية”، لكن الأب وأمين سرّ البطريركية ميشال عويط في كتابه “وصيتي إلى الموارنة” كتب عن مدرسة روما بأنها كانت: “همزة وصل بين الشرق والغرب”، و”عندما كانت روما تطلب من الموارنة أن يتخلّوا عن عاداتهم ويعملوا بعادات الكنيسة اللاتينية، كانوا يعتقدون أن التخلي قيد شعرة عن عاداتهم هو التنكّر لأقدس شيء عندهم. فكانوا يرفضون، ولا يقبلون بأن تُمسّ تقاليدهم. أما وقد تخرّج في المدارس التي أسستها الإرساليات مَن تخرّج، وفتحوا قلوبهم وضمائرهم وعقولهم الى الغرب وعاداته، فقد أصبح لنداء روما مؤيدون كثر. وقد سعى هؤلاء الى خلع الوشاح اللاتيني على الطقس الماروني، فضُربت الوحدة، ودبّت الفوضى في صفوف الموارنة. وإذا بتيارين بين الإكليروس الماروني. وإذا بتيارين في كل رعية مارونية. وقد اضطرت روما الى أن تتدخل مرات عديدة لتحل المشاكل التي كانت تبرز بين الكهنة الذين تخرّجوا في المدرسة المارونية وبين أساقفتهم. وكان هؤلاء الكهنة يقولون إنه لا تُسند إليهم مسؤوليات يعملون على أساسها بنهضة الطائفة. وكان الأساقفة يقولون إن هؤلاء الكهنة يعملون أعمالاً تتنافى ومصلحة الطائفة.
شكّل هذا التطاحن الذي أوجدته الإرساليات في صفوف الموارنة، ظاهرة خطرة، ولّدت تضعضعًا في الشعب سيؤدي الى واقع مرير”.
ويشير صاحب “في البدء كانت الممانعة”، سهيل القش، إلى أن اختيار طلاب مدرسة روما المارونية جاء ضمن إطار استراتيجية كنيسة روما الكاثوليكية للتينة السلك الكهنوتي الماروني. وهذا الأمر سهّل على الطلاب الاندماج مع المجتمع الغربي. وبرزت كفاءات علمية ساهمت في تعريف الغرب على الثقافة العربية والسريانية، وهذا ما شكل نواة الاستشراق “العلمي” وبقي غائباً عن الدراسات الحديثة المهتمة بالاستشراق. يضيف القش أنّ العالم العربي لم يكن يلتقي للمرة الأولى بالغرب من خلال مدرسة روما المارونية العام 1584، ولا من خلال حملة بونابرت على مصر العام 1798.. أن العرب والغرب تجمعهما علاقة قديمة تعود بماضيها إلى اكتشاف الغرب المسيحي للفلسفة اليونانية وأفلاطون على يد اغسطينوس، ولجوء علم الكلام إلى منطق أرسطو للدفاع على الاسلام، مروراً باحتلال العرب لإسبانيا على امتداد سبعة قرون، وانتهاء بقرنين من صراع دام بين العرب والصليبيين حول مملكة القدس اللاتينية… “كل هذه المعاشرة الطويلة من الاقتتال والتفاعل الفكري والحضاري، أعطت الوقت الكافي لكل من العرب والغربيين لكي يوغل كل منهم رؤية للعالم التي تميّزه عن الآخر أو تقربه منه في جدلية الحب والكراهية”، بحسب القش.
ومدرسة روما المارونية (ومعها ترجمات الكتاب المقدس) حملت الكثير من النقاش. يقول أمين ألبرت الريحاني في كتابه “الترجمات العربية للكتاب المقدّس وأثرها في عصر النهضة”(دار نلسن): “حمل العهد الجديد بلغته العربية بذور أدب عربي جديد وبذور شعر عربي جديد، بل بذور نهضة فكرية عربية المسار وتشير إلى أن النهضة العربية بدأت في لبنان مع القرن السابع عشر ولم تنتظر نابليون وجحافله الغازية في أواخر القرن الثامن عشر ومطلع القرن التاسع عشر، الأمر المتداول زوراً وبهتاناً”.
وهذا الرأي جعل المعلق والكاتب جهاد الزين يكتب: “أظنّ هنا ذهب الكاتب بعيداً، بعيداً جداً في استنتاجه بما لا يتيحه لا البحث نفسه ولا مادته. على الأقل نحن هنا أمام مبالغة كبيرة تحتاج الى بحث بل أبحاث. فالتخفيف من قيمة غزو نابوليون على حركة الحداثة العربية خصوصاً حين يستخدم تعبير “زوراً وبهتاناً” يلغي إرثاً كاملاً في حقول معرفية وفكرية مختلفة”.
ولم تمض أيام حتى علق الباحث محمود حداد قائلا: “لا شك، إذن، أن الاتجاه الديني المسيحي قد ساهم في حداثة اللغة العربيّة وحداثة شعرها وأدبها المعاصرَين خاصة عند اللبنانيين، كما أثبت ذلك أمين البرت الرّيحاني في نماذج الكتّاب والأدباء التي قدمها في كتابه، إلا أن الاتجاه الديني والعلماني العصري عند المسيحيين والمسلمين معاً أسهم هو أيضاً في عصر النهضة حيث ارتقت العربية إلى مستوى العصر بالترجمة وإعادة اكتشاف الذات(..). إلا أنه من المؤسف أن اللغة العربية التي كانت تغتني وتتحدث (من حداثة) بالترجمات اليها أصيبت بمرض التغرب فقام الأجانب والوطنيون القائمون على التعليم في البلاد العربية بتفضيل التعليم بإحدى اللغات الأجنبية لأسباب اعتقدوها عصرية فبدلاً من محاولة تعريب ما هو غربي، جرت غربنة ما هو عربي فانقلب الوضع وصار الطالب العربي غير متمكن من كلتا اللغتين جاهلاً عملياً بالعربية والأجنبية معاً”.
هذه صورة مختصرة عن علاقة لبنان بالغرب في مرحلة من المراحل، وهي علاقة تحمل الكثير من التأويلات والحكايات والمعاني، في بلد بات يفقد معناه.