مرّت ذكرى ولادة موسيقار الاجيال محمد عبد الوهاب (13/3/1901) من دون أي اهتمام أو حتى مجرّد التفاتة من أي من وسائل الإعلام في لبنان، على تعددها، وعلى عكس ما حدث في مصر وسوريا، حيث كان لهذه الذكرى حضورها ومكانتها في مختلف وسائل الإعلام، ما جعلنا نتذكّر المقولة التي كان يردّدها دائماً اهل الغناء والموسيقى في لبنان: «يولد الفن في سوريا، يعيش في مصر، ويموت في لبنان»..
وذكرى ولادة محمد عبد الوهاب ليست الوحيدة التي يغفل عنها الإعلام اللبناني، حيث إن الكثير من المناسبات المشابهة لفنانين لبنانيين كبار، تقابل للأسف بالإهمال ذاته؟!
وإذا كنّا اليوم نضيء على المناسبة، باعتبارها تتعلق بأحد أبرز نجوم الغناء والتلحين في القرن العشرين، فذلك من خلال تناول واحدة من أبرز المحطات الإنسانية الفنية في حياة محمد عبد الوهاب، وهذه الاضاءة، نعتبرها استكمالاً لإضاءات سابقة على محطات ذات صلة بالكثير من المبدعين في لبنان والوطن العربي، وسنجهد في القادم من الأيام لاستكمال هذه الإضاءات على من يتيح لنا العمر تقديم سيرتهم الفنية ومسارهم الإنساني.
ولأننا نعتبر ان أبرز المحطات في مسيرة موسيقار الأجيال، تتمثل في اللقاء العظيم الذي جمع محمد عبد الوهاب بأمير الشعراء أحمد شوقي، أي اللقاء الذي جاء بعد جفاء وكراهية استمرّا لعشر سنوات، (1910- 1920)، سنتناول الحدث، وفي تفاصيله، إن امير الشعراء حل ضيفاً في العام 1910 على احدى مسرحيات «فرقة فوزي الجزائرلي»، فاستمع إلى الفتى ابن الـ 9 سنوات محمد عبد الوهاب وهو يغني بين فواصل (استراحة) المسرحية، ثم سارع إلى تقديم شكوى لرئيس الشرطة (الحكمدار) مستنكراً كيف ان طفلاً يغني كل ليلة في مسرح حتى طلوع الفجر، وكان ان امرت السلطات محمد عبد الوهاب وبقية الاطفال بالتوقف من العمل، ومنذ ذلك اليوم، وموسيقار الأجيال حاقد على امير الشعراء الذي جرحه ومنعه من الغناء.. وتمر السنوات وصولاً إلى العام 1921، لتتحوّل العلاقة بين الطرفين إلى علاقة حب وود وتقدير وتبني، اثمرت تبدلاً كبيراً في مسيرة الرجلين، بحيث تنازل امير الكلمة والشعر بالفصحى، طوعاً، وكتب شعراً غنائياً بالعامية ليغنيها ويلحنها محمد عبد الوهاب..
ويروي التاريخ ان موسيقار الأجيال بدأ الغناء في الحفلات الخاصة والأفراح في العام 1920 مقابل اجر اربعة جنيهات، وحدث ان أُقيم حفل في فندق «استيفانو» شارك فيه محمد عبد الوهاب وكان امير الشعراء بين الحضور، فأعجب بصوت المطرب الصاعد الشاب ودعاه لمقابلته، وهذه المقابلة شكّلت نقطة التحوّل في حياة محمد عبد الوهاب، فنياً وإنسانياً، فأمير الشعراء كان يومذاك يعمل بوظيفة فخرية «رئيس معهد فؤاد الأول للموسيقى»… وبهذه الصفة، دعا محمد عبد الوهاب للإلتحاق بالمعهد كما شجعه على التلحين لنفسه.
أما بداية التأثير والتأثر بين الرجلين، فتجلّت بعد المؤتمر الأول للموسيقى العربية الذي أُقيم في المعهد العام 1931، وحضره محمد عبد الوهاب، وخلاله تم بحث «مشاكل إيقاع الموسيقى العربية وإمكانية استخدام ربع الصوت (الغربي) في المؤلّفات الموسيقية والغنائية العربية، حيث لم يتوصل المؤتمرون إلى حل ما دعا الموسيقار «مضر علي» وكان من أبرز أركان المؤتمر وأيضا المعهد إلى الإعلان عن «أن علماء الموسيقى أجمعوا ان موسيقى الشرق – شرق وموسيقى الغرب – غرب، وإنّ لكل من هذين الجزئين من العالم موسيقاه واغانية واذواقه»..
محمد عبد الوهاب الذي كان حاضراً في كل ندوات ونشاطات المؤتمر، وبتشجيع من امير الشعراء احمد شوقي، بدأ يعمل لتطوير الموسيقى العربية في الاغنيات التي سيتولّى تلحينها، من اجل إلغاء القاعدة التي بنى عليها الموسيقي الكبير «مضر علي» نظريته، وبعد عام واحد فقط، أي في 1932، أنتج فيلمه السينمائي الأول «الوردة البيضاء» وفيه غنّى «جفنه علم الغزل» وهذه الاغنية كانت أول «رومبا» عربية من المقام الغربي (الماجور)، محطّماً بذلك الآراء التي تقول ان الموسيقى العربية وكذلك الغناء العربي غير قادرين على التطوير أو بلوغ العالمية، ولا يزال العالم العربي حتى اليوم، يسير على خطى موسيقار الأجيال من حيث تطويع الأصوات الغنائية والآت الموسيقى الغربية لصالح الأصوات الغنائية والآت الموسيقى الغربة لصالح الموسيقى والغناء العربين.
كتب لعبد الوهاب بالعاميّةأمير الشعراء أحمد شوقي
أما النقطة البارزة الثانية، والمهمة جداً في لقاء أحمد شوقي ومحمد عبد الوهاب، فكانت في تحوّل امير الشعراء إلى الكتابة بالعامية للأغنية «الوهابية»، ومن هذه الاغنيات، على سبيل المثال: «بلبل حيران – دار البشاير مجلسنا – فيك عشرة كوتشينه – النيل نجاشي – اللي يحب الجمال – الليل بدموعه جاني – سيد القمر بسماه – في الليل لما خلي – النبي حبيبك – تراضيني وتغضبني»، وسواها، لكن تحوّل أمير الكلمة والشعر إلى كتابة الاغاني بالعامية لم يلغ عنده الكتابة الغنائية بالفصحى، وحين خصّ محمد عبد الوهاب بعشرات الأغاني والقصائد ومنها: «مُضناك جفا – أي سر فيك – تلفتت ظبية الوادي – خدعوها بقولهم حسناء – رُدت الروح – منك يا هاجري دائي – يا ناعماً رقدت جفونه – إلآم الخُلف – أنا أنطونيو – جبل الثوباد – دمشق – مجنون ليلى – علموه كيف يغفو – مقادير جفنيك – يا شراعاً»… وسواها…
مجموعة من الاغنيات بالعامية والفصحى كتبها امير الشعراء وغنّاها محمد عبد الوهاب، شكّلت الشرارة الأولى في تغيير مجرى الأغنية العربية بحيث أضافت تصوير المعنى، وأضافت كذلك آلات موسيقية جديدة على ما كان يُعرف بـ «التخت الموسيقي» وقد حوّله موسيقار الأجيال إلى «فرقة موسيقية» في أغنيته «في الليل لما خلي» – على سبيل المثال، وحيث ادخل آلات «الفلوت – الفيولونسيل – الكوترباص- الكاستانيات (الصاجات الغربية)، إلى آلات العود والقانون والايقاع والكمان والناي، وما أغنية «في الليل ما خلي» إلا مثالاً من عشرات الامثلة التي توالت في كل ألحان وأغنيات محمد عبد الوهاب، منذ بداياته وحتى رحيله العام 1991 عن تسعين عاماً… رحمه الله…
عبد الرحمن سلام
abed.salam1941@gmail.com