20-03-2023 | 00:00 المصدر: “النهار”
“محطات الشمال” لربى الصلح.
الدكتور قصي الحسين
أنهيت قراءة رواية “#محطات الشمال” للكاتبة اللبنانية المهاجرة #ربى الصلح (دار الفارابي)، فوجدت أن شخصياتها تعد بالمئات، ومعظم أحداثها، إنما تدور في “محطات” زمنية ومكانية مختلفة. غير أنها تعبر جميعها عن عذابات النفس المهاجرة، مثل طيور اللقلاق أو النورس، لا فرق.
ما يلفت القارئ كيف تمكنت الأديبة الصاعدة من كتابة، بل من تشكيل الأدب، تشكيلا حروفيا. بمعنى آخر، أنها جعلت فصول الرواية لوحات حروفية، بالغة الدقة والجمال: “مرأى الخباز الألماني يقرص أمعاءه الفرغة. لم يأكل منذ الصباح. ولا يحمل في جيبه ثمن كعكة. يطرب لرؤية الأشياء المعروضة بعديد الأشكال والأحجام، بما لذ وطاب.”
الحروفية، في الأصل، إنما هي مدرسة فنية، برع بها التشكيليون القدماء، ولكن سرعان ما انتقلت إلى الفنون التشكيلية الحديثة، لأنها بدت معجبة لمحبي الفن التشكيلي.
أزاحت ربى الصلح الحروفية والتشكيل الحروفي، عن العمل في الرسم، وأعادت هذا الفن إلى الرواية والأدب. وهذا هو سرها في الأساس، الذي يرسم في الواقع، كل التشويقات، لقراءتها، بغير الأسلوب القديم. فالقارئ، يجد لذة في تتبع السطور، أينما وقعت عيناه: “القناطر العربية حيث كانت تحب أن تلتقيه نجاة، ما عادت مفتوحة للملأ. بل أصبحت متاحة فقط للمصلين.”
وصفت الرواية ما كان يدور في أزمنة الحروب والتهجير على الناس، في محطات زمكانية، وقعت لعينها، فغدت لذلك شديدة الدقة والوصف. فكانت بتشكيلها الحروفي، تسمح للكاتبة بعرض كثير من الأحداث والمشاهد المأسوية، وألوان المآزق والنزعات، التي يشارك فيها أبطالها، عن وعي منهم، أو عن غير وعي: “لقد كانت لحظة ضعف. خفت أن أطلب وتخذلني. فتصرفت في الخفاء. خزى الله الشيطان.”
ثمة مشاهد في الرواية تحبس الأنفاس، من حالات القلق الشديد التي يعيشها الأبطال، بسبب الخوف والرهاب والقسوة والضعف، وربما بسبب الجوع والمرض والإنعزال والأسر. وقد تنشأ على ضفاف ذلك، هوامش للحب ولحالات العشق، وحالات الإرتكاس، في الإماكن الحبيسة عن الأنظار: “محطة القطار الرئيسة، كانت كعادتها تعج بالناس والمسافرين. كل إلى وجهته. هو سيأخذ القطار إلى هاربورغ حيث منزل حميد. لمح في إحدى الزوايا مجموعة من الشبان يقومون بتوزيع المصاحف على المارة. وعلى مقربة منهم مجموعة أخرى يقومون بتوزيع الأناجيل.”
تشكل فصول الرواية لوحات رائعة، تنقل ببلاغة مؤثرة، وبلغة حروفية مدهشة، معاناة الناس، وموتهم اليومي، على وقع الأهازيج والإحتفالات بالنصر. أو قل بالظفر. إذ لا نصر للأقوياء على الضعفاء، مهما أوغلوا في تعذيبهم، أو في لعق دمهم، وامتصاص عروق تعبهم اليومي، بعد نهارات الكد والكدح والمشاق والتعب: “فتون عذبة الصوت أيضا. قالت آنا حين أخبرها سعد وهي تراقصه.”
في تضاعيف الرواية، تبدو الفتيات والعجائز، والأمهات والآباء والأبناء والأزواج والعشاق، والمكدون في دروب الحياة، أنهم يتابعون الكارثة النهائية، على الرغم من كونها كارثة متجددة.
هذا النوع من الأدب، الذي يقرأ شاقوليا، كما يقرأ طردا أو عكسا، إنما يدل على براعة كاتبه. فالمعاني تذوب ذوبا في مقاطع قصيرة جدا، وإن كانت لا تسمح للتجدد الفكري أو العاطفي للشخصيات، بالبروز: “أنا لا أسليهم. انا أرشدهم. عملي هو مرشدة سياحية. وهو عمل جميل.”
لعل التجاورات الأدبية والنقدية، هي التي تميز التشكيل الفني في الرواية، فتبدو الحروفية الأدبية، نصا بليغا، بل جرحا بليغا في عالم الأدب. هذا نموذج روائي مختلف، يؤسس لرؤية مختلفة واجتهادات زمكانية مأنوسة، تطمح إلى بلورة خطاب فكري نجد في تضاعيف بناه، جميع إخفاقات النهضة العربية والنهضة اللبنانية، المتلازمة معها.
الرواية، تحيل على قيم إبداعية ومعرفة سوسيولوجية وسياسية وإنسانية مشتركة. تبدأ بالقضية الفلسطينية، ثم هي لا تنتهي بالقضية العربية ولا بالقضية الوطنية اللبنانية. إنه إذا الأفق الذي يغلب الفكر والنقد والنضال والجهاد، كما الصداقة والحياة العائلية، حيث يتبدى الإنتماء من عدمه، أفق ربى الصلح الفسيح للكتابة.