اخبار عاجلة
الرئيسية / مقالات / محافظة كرمان ودولة سنغافورة

محافظة كرمان ودولة سنغافورة


سمير عطاالله
النهار
20062018

يهوى المؤرخون والصحافيون والمحللون لعبة المقارنات اسناداً لرؤيتهم للحاليات قياساً بما سبقها من سابقات. لذلك، كان طبيعياً أن تتدافع محاولات التشبيه بين قمة ترامب – كيم وما سبقها من قمم مفصلية بين رؤساء أميركا وأعدائهم الألداء. كمثل قمة ريغان – غورباتشوف، أو بوش الأب – غورباتشوف، أو نيكسون – ماو تسي تونغ، وسواها من قمم أدّت إلى الإنفراج أو ذوبان الجليد. غير أن المقارنات على أنواعها لا تستقيم في هذا المؤتمر، فهي قمةٌ بين رئيس الدولة الكبرى في العالم وزعيم دولة متوسطة على نفسها، تفيض بكثرة السلاح وتغيض بقلة القمح والأرُز. الحقيقة أن الزعيم المبجل لكوريا الشمالية استطاع ان يستدرج رئيس الولايات المتحدة إلى لقاء يفتقر إلى التساوي في أي شي. طبعاً النتائج تستحق التسوية أو التنازل. ولم يتوقف الأميركيون أو العالم كثيراً عند سخرية الشكليات، إذا ما أدى هذا المسار في النتيجة إلى انتقال بيونغ يانغ إلى مجموعة الدول الطبيعية، وإلى تجريد شبه الجزيرة الكورية من إحدى كبرى ترسانات الأسلحة في العالم. وبالتالي خفض نقاط التوتر والأخطار، في منطقة أخرى من مناطق البراكين الحمقاء.

ذلك النهار، فيما كانت سنغافورة تستضيف رجلين كانا إلى الأمس يتبادلان السباب والإهانة والتجريح السوقي، كان اللواء قاسم سليماني يدلي ببيان جاء فيه أن لبنان برمته لا يبلغ مساحة محافظة كرمان التي تكبره 15 ضعفاً على الأقل. لا نقاش في ذلك ولا غرو. فمن حيث السكان أيضاً ليس لبنان شيئاً أمام 81 مليون إيراني. المشكلة الكبرى هي أن المساحات وحدها لا تكفي. فأمام أكثر من مليون ونصف مليون كيلومتر مربع في بلاد فارس وامبراطورية كسرى، لا تجمع سنغافورة سوى 721,5 كيلومتراً مربعاً. لعبة المقارنات ليست دائما في مصلحة صاحبها. فتلك الجزيرة التي حوّلها لي كوان يو من مستنقع إلى جوهرة إقتصادية، تتمتع بالإقتصاد الثامن في العالم مقابل الثامن عشر لايران، ويبلغ دخل الفرد فيها 61 ألف دولار أميركي (وليس سنغافوري) مقابل 5 آلاف للفرد الإيراني.

قبل أشهر كان “القصير” كيم، وغريمه دونالد، يتراشقان بالتهم مثل صبيان الحي. وكانا يتبادلان التهديدات مثل القبضايات المتقاعدين. وبالفعل فإن كلاهما يملك تدمير العالم، لكن ذلك يحتاج إلى مناسبة كبرى. فهل يكفي وصول سمسار عقارات إلى الرئاسة الأميركية، أو أن تبلغ عائلة كيم ايل-سونغ مرحلة وريثها الثالث كي تفنى البشرية؟

أجل. أحياناً يبدو العالم سقيماً إلى درجة هذا الإحتمال: كهل متوتر من الغرب الاميركي، وشاب متوتر من معاهد التعبئة والامجاد، واذا العالم قفٌر، كما قال دوفينيي.

لكن ثمة من يهمس في أذن كلٍ من المُتَدَربَين الجديدين، أن ثمة ما هو أفضل من الشغف بالعدم: خيار الحياة والبقاء، وما كان يسميه السوفيات “الشعوب المحبة للسلام” بعدما فقدوا 18 مليون إنسان يوم قرر العريف النمسوي، لاحقاً الفوهرر الألماني، أن يكون الإتحاد السوفياتي مزرعة الرايش! إذاً، الحروب احتمال شديد. ذهب الاميركيون الى فيتنام ولم يعودوا من رحلتهم الا بعد سقوط 5 ملايين قتيل. لماذا؟ لكي لا تنتصر الشيوعية. الا ان الذي هزمهم كان الطباخ السابق في فندق “الريتز” هوشي منه. كل شيء في البلاد أعطي اسمه: طريق هوشي منه. عاصمة هوشي منه. مطاره. نهره.

لكن لماذا نزلت التظاهرات اليومية في مدينة هوشي منه الأسبوع الماضي؟ حاول أن تسمع: لأن المستثمرين الصينيين سيطروا على مربعات جديدة في منطقة البورصة؟ أجل، البورصة، أو المنطقة المالية. وأصدق التحيات لذكرى الرئيس هوشي منه والرفيق الاكبر كارل ماركس في ذكراه المئتين. لم يحتفل بها أحدٌ في بلاد الشرق السابق، لكن الغربيين احتفلوا به كأديبٍ ساحر وإنسانيٍّ مستقيم وعبثيٍّ مشى العالم من خلفه. لكنه لم يعرف كيف يحافظ على مدينة هوشي منه من دون بورصة ومضاربات وتجار صينيين.

دائماً، دائماً عندما تتأمل طفوليات الكبار في هذا العالم تخطر قصيدة الأخطل الصغير: يبكي ويضحك، لا حزناً ولا فرحاً / كعاشقٍ خطَّ سطراً في الهوى ومحا!

كم أميركيٍّ ضحك حتى انقلب وهو يرى دونالد ترامب يؤنّب جاستن ترودو ويعنّفه، ثم يركب الطائرة إلى سنغافورة ليكون أول رئيس أميركي يصافح الكوري القادم من وراء المنطقة المنزوعة السلاح، حيث تلعلع مكبرات الصوت 24 ساعة شتماً وتحقيراً، وأيها الرأسمالي العفن، تعال، إلحق بنا إلى جنة القائد المبجل.

لم يمض وقتٌ طويل قبل أن تقيم بيونغ يانغ حي البورصة. وإلى جانبه سوقٌ شعبيةٌ للجينز المصنع في الصين المجاورة. ومثل الفيتناميين، سوف يشتكون من الإخوة والأشقاء الصينيين لأنهم يربحون دائماً في كل المضاربات وسباق الخيل. لن يبقى شيءٌ في هذا العالم. لقد شهد ترامب خلال القمة ماذا فعل “العرق” الصيني في سنغافورة. آلة بشرية تعمل وتنتج وتبيع الثياب الداخلية النسائية في الصعيد. أميركا تفكّر، والصين تعلّب وتصدّر. ومدينة هوشي منه التي دخلت آداب الإيديولوجيات الشعبية حول العالم، تتضارب الآن حول سوق المضاربة. وسايغون التي كانت مدينة عارٍ وسمعةٍ سيئة بأضوائها الحمراء، عادت إلى ازدهار دورها القديم من دون التوقف كثيراً عند أقوال لينين الخالدة.

دعك من المحاولة. هذا العالم لم يقم من أجل أن يُشرَح ويُفَسَّر. خصوصاً إذا كان في وسطه رجلٌ مثل “الدونالد” يؤنّب جارته المحتشمة الممتدة على طول الحدود مع بلاده، ويدعو جماعة السبعة إلى إعادة ضم روسيا، وتكرُّ بين اصابعه الإتفاقات الموقعة مع العزيز كيم، الذي حرص طوال لحظات القمة على ألا ينفجر ضحكاً أو نووياً.

رجاءً ألا يُفهَم من هذا التعجب أي استنكار. فنحن “الشعوب المحبة للسلام” نرحب بأي انفراجٍ على هذا الكوكب. فقد سئمنا دمار الجيوش، والجنازات اليومية، وصور الأطفال المرتعدي الملامح، وصور النساء هائماتٍ في البراري. كلما ظهرت قوةٌ جديدة في المنطقة تقدّمتها حروبها. حروبٌ تُخاض بعيداً من الحدود مع إسرائيل، ولكن دائماً في الطريق إليها. وهي بولفار متعدد الخطّ والاتجاه، يوماً تبدأ الطريق في جونية، ويوماً في عمان، ويوماً في الكويت، ويوماً في اليمن، ويوماً في المغرب. ولم نعد نعرف من هو محررنا وقائدنا نحو فلسطين. فعلى ما يبدو – والتعبير لزياد الرحباني – إن القائد الحالي هو قطر، التي طلبت أخيراً الإنضمام إلى حلف شمال الأطلسي. لأن قواتها العسكرية لم تعد تكفيها القواعد الأميركية شرق الدوحة أو القواعد التركية في غربها، أو العقود العسكرية مع دول العالم. ألا يرى اللواء سليماني بأم عينه ماذا يمكن الدول الصغيرة أن تفعل؟ من يفهم تأنيب ترامب لكندا وتدليله للصديق الجديد في كوريا، يمكنه أن يفهم طلب قطر الإنتساب إلى حلف شمال الأطلسي. أما أنا شخصياً، فقد قررت، منذ زمنٍ طويل، الإستقالة من محاولات الفهم ومغامرات التوقع، تاركاً هذا المجهود الإلهامي لمواطنتنا السيدة ليلى عبد اللطيف.

في بضعة أسابيع إنتقلت السياسة العالمية من العداء المرعب ورعب الانفجار، الى متعة الانفراج. الكوريون الشماليون يشاهدون على لوحات الأخبار في الساحات صور زعيمهم يتبادل التواقيع والمصافحات والتحيات مع الشيطان الأكبر، على أن يتم العناق في القمة المقبلة. أيضاً الأخطل الصغير: غداة لوَّحت بالآمال باسمة / لان الذي ثار وانقاد الذي جمحا.

لا يمر مقال عن سنغافورة إلاّ واتذكر ما رواه الاقتصادي مكرم زكور، الذي امضى سبع سنوات هناك مديراً عاماً لشركة “ميريل لينش”. قام يوماً بزيارة لي كوان يو في منزله المتواضع، فلاحظ في مكتبته رفاً كاملاً لمؤلفات جبران خليل جبران، وكتاباً لشارل مالك. وكان لي كوان يو يردد دائماً أنه يحلم بجعل مطار “شانغي” مثل مطار بيروت، وشركة “سنغافورة ايرلاينز” مثل “طيران الشرق الأوسط”.

اضف رد