الرئيسية / home slide / ما قاله الأخطل عن غروب شمسه؟!

ما قاله الأخطل عن غروب شمسه؟!

حسن داوود
القدس العربي
18052023

في سنة 1961 كُرّم الأخطل الصغير في قصر الأونيسكو، حيث أُسبغ عليه لقب أمير الشعراء، ذاك الذي كان قد ابتُدع لأحمد شوقي قبل ذلك بأربع وثلاثين سنة. لعقود تلت ذلك ظلّت قصائد الشعراء العرب، الذين قدموا للمناسبة، حاضرة في أمسيات محبّي الشعر ومناسبتهم. بين هذه القصائد، وفي طليعتها، كانت قصيدة الأخطل الصغير التي قال في مطلعها:
اليوم أصبحت لا شمسي ولا قمري
مَن ذا يغنّي على عود بلا وترِ
ما للقوافي إذا جاذبتها نفرت
رعت شبابي وخانتني على كِبري
وحتى أيامنا هذه بقي الجيل الأدبي الذي عايش ذلك التاريخ يتذكّر، حافظا عن ظهر قلب، أبيات هذه القصيدة. ذانك البيتان منها، الافتتاحيان، راح يتغيّر ما يجذب فيهما كلما تقدّم حافظهما في عمره وتجربته. أوّل ما استوقفه فيهما، كما أحسب، هو إعلان الأخطل عن نفاد قريحته كاتبا لذلك أجمل الأبيات، كأنه، في مناسبة تكريمه تلك، استطاع أن ينقذ من شاعريته آخر ما يمكن أن تجود به. أما في العمر المتقدّم لذلك الجيل، وهو ذاك الذي يكاد يقترب فيه من عمر قائله، الذي كان في السادسة والسبعين آنذاك، فصار السؤال حول البيتين يتعلّق بالشجاعة التي يتطلّبها قول شاعر إن موهبته قد غاضت (اليوم أصبحت لا شمسي ولا قمري).
ومن ناحية أخرى، كيف عرف الأخطل أن ما قاله هناك، في القاعة العامرة بكبار شعراء العرب، هو آخر إبداعه؟ ألم يقل بينه وبين نفسه إن ذلك الجفاف الذي عانى منه، ربما، في ذلك الفاصل من حياته، مؤقت وعابر. ذاك أنه، لا بدّ، كان قد عاش ما يشبه ذلك الاستعصاء في فترات سبقت من حياته، وأن الموهبة ستعاود العمل من جديد، تبعا لما كان يحصل دائما.
لكن لا بدّ من أن الشاعر الغزِل كان قد اختبر قريحته مرّات، وخذلته، قبل أن يعلن أمام الجميع، أنه لم يعد شاعرا، أي أن يقول إنه، في لحظة التكريم تلك، يخلي كرسيَّه فيما هو يصعد لارتقائها. وهذه، لمرّة أخرى، شجاعة نادرة. أحسب أن غيره من الشعراء، في وقت معاناتهم لذهاب الموهبة، يتحايلون على ذلك بطرق شتّى، بينها مثلا أن يستمرّوا في الكتابة والنظم، رغم شعورهم بأنهم ما عادوا في حالهم الذي كانوا فيه. ذلك، في جانبه المأساوي، يشبه ما في ثيمة نزول الممثلات الجميلات عن عروشهنّ بعد انقضاء الشباب، تلك الثيمة التي لطالما أغرت صنّاع الأفلام السينمائية لتصوير قسوتها البالغة. ذلك أن نفاد الموهبة لا يشبه ذلك الإجراء العادي الذي يحال فيه الموظّف على التقاعد. الشاعر بلا قدرة على نظم الشعر لن يكون هو نفسه، بل إنه، لفقده ذاك الجوهري، لن يجد شيئا يُعاش من أجله، هكذا فعل أرنست همنغواي. في إحدى محاولات انتحارة العديدة. قال لزوجته فيما هي تحاول انتزاع المسدّس من يده، إن شيئا لا يستحقّ أن يعيش من أجله بعد أن بات غير قادر على الكتابة، كما وعلى، وهذه خاصة بهمنغواي البطل وزير النساء، ممارسة الجنس.
كان ذاك البطل الأمريكي، أو العاشق لصورته بطلا، في ما قبل العمر الذي يتساءل الكتّاب فيه إن كانت ساعة التخلي قد أزفت. كان في الثانية والستين حين نجح في تنفيذ محاولة الإعدام الأخيرة، أي أن تلك الرجولة الفائضة، المقرونة بالشهرة الواسعة المتحصّلة من إبداعه، استُنفدتا مبكّرتين، لأن صاحبهما جاهد على طريقة أن يعيش الشخص يومين أو ثلاثة في اليوم الواحد. لكن يبقى أن همنغواي لم يجرّب. لم يقل، وهو في ذلك العمر القليل لبلوغ آخر الكهولة، إن ذلك ما هو إلا عارض عابر من أعراض الكتابة، لكن كان هذا دأب همنغواي في استباق الزمن، ليس في ما يتعلّق بنفسه فقط، بل بمن له صلة بهم من الآخرين. لم يمهل، على سبيل المثال، التعثّر الكتابي لصديقه سكوت فيتزجيرالد فنظّر، مبكّرا، لانتهاء موهبة هذا الأخير. لكن ينبغي أن لا ننسى أن هناك كتّابا آخرين آمنوا ببقاء ملكاتهم على حالها. لم أعد أذكر من هو الكاتب الذي اشتكى من أن عمر الإنسان أقصر من أن يمكّنه من إتمام كل ما يرغب في إنجازه. قال إن الكاتب يحتاج إلى أن يعيش ثلاثمئة سنة ليمكن له أن يقول كل شيء. لكن أحد زملائه الكتّاب لاحظ أن كاتبنا المتسرّع، رغم رغبته تلك، توقّف عن الكتابة تماما قبل أن يبلغ السبعين.

كاتب لبناني