ردود الفعل الاولية الاميركية، وتلك الصادرة عن حلفائها على الارض والمنضمة تحت لواء قوات سوريا الديموقراطية التي تشكل “قوات الحماية الشعبية” الكردية المرتبطة بحزب العمال الكردستاني (المصنف من تركيا واميركا كتنظيم ارهابي) القوة الصاربة فيها التي حررت الرقة، تعتبر نفسها منتصرة في معركة مضنية وطويلة. وهذا صحيح بالمعنى الضيق. ولكن الاطراف الاخرى الفاعلة على الارض في شرق سوريا أي قوات الجيش السوري وحلفائه في الميليشيات الشيعية التي تديرها ايران، اضافة الى الدور الروسي العسكري، توحي بان هناك احتمال كبير بان ينجح الائتلاف الثلاثي :السوري-الايراني-الروسي في المستقبل المنظور في استعاد السيطرة على الرقة ودير الزور بما في ذلك حقول النفط اما بالقوة ام بتفاهم بين النظام في دمشق وقوات الحماية الشعبية، التي تدرك انها لاتستطيع البقاء في الرقة، ولكن يمكنها استخدام تحريرها للمدينة كورقة تعزز من موقعها التفاوضي. في الرقة كما في كركوك، لا تزال ايران مرشحة لان تكون الطرف المنتصر بعد انسحاب القوات الخاصة الاميركية، وعودة وحدات الحماية الشعبية الى مناطقها.
المشاهد الاولية للرقة مروعة، كما المشاهد الذي اكتشفها العالم بعد تحرير الموصل : أرض يباب تمتد الى الافق البعيد، واهرام متفاوتة الحجم من الركام والاطلال، لا عشب ولا ماء ولا انسان فيها. يمكن ان نقول ان مشاهد مماثلة دفعت بالموْرخ الروماني تاسيتوس (توفي في سنة 120 الميلادية) ليقول جملته الشهيرة: خلقوا صحراء وأسموها سلاما.

لا خيارات جيدة في العراق
تدمير “الخلافة” في “عاصمتها” الرقة، تزامن مع استعادة الحكومة العراقية لسيطرتها على مدينة كركوك في عملية عسكرية للجيش العراقي، كان رأس الحربة فيها الميليشيات الشيعية التي تسيطر عليها ايران والمعروفة باسم “وحدات الحشد الشعبي”. جاء “سقوط” كركوك في ايدي القوى المهاجمة في سياق تسوية توصل اليها رئيس فيلق القدس الايراني قاسم سليماني مع بافل طالباني نجل الرئيس الراحل جلال طالباني خلال لقاء سبق العملية، ولا تزال التهكنات تدور حول طبيعة التسوية التي دفعت بقوات البشمركة التابعة “للاتحاد الوطني الكردستاني “الذي أسسه طالباني الراحل، للانسحاب من المدينة دون قتال، وان تحدثت التقارير والتكهنات عن صفقة شملت مزيجا من المكافآت والتهديدات. هذا التطور صعق الكرد، وادى الى تشفي اعدائهم بهم، وصدمة ما تبقى من اصدقائهم الذين لم يتخلوا عنهم بعد قرار اجراء الاستفتاء، الذي يرى حتى اصدقاء الكرد انه اتخذ بشكل اعتباطي ، وقبل تمتين الوحدة الوطنية، وحسم الخلاف حول شرعية سلطة الرئيس مسعود برزاني من خلال اجراء انتخابات نيابية جديدة. ويقول السفير الاميركي السابق روبرت فورد الذي خدم في سوريا والعراق، “لقد جازف مسعود برزاني عندما اصر على الاستفتاء دون ان يتوقع طبيعة ومدى الضغوط والتهديدات التي سيتعرض اليها من ايران وتركيا والحكومة العراقية” ويضيف فورد في حوار مع “النهار”، ان “أوراق برزاني ضعيفة، ولم يلعبها بالحكمة المتوقعة منه”.
حتى الان لا يزال التوتر بين الرئيس برزاني ومعارضيه التاريخيين في الاتحاد الوطني الكردستاني، على المستوى السياسي، ولكن بعض المراقبين في الولايات المتحدة ومن بينهم السفير فورد لا يستبعدون كليا تدهور العلاقات واحتمال حدوث اشتباكات بين الطرفين ” وخاصة اذا استمر المأزق الراهن” ويتسائل فورد “كيف سيتعامل الاكراد مع هذه النكسة؟ هل سيطالبون بمسائلة قادتهم بمن فيهم مسعود برزاني وبافل طالباني؟ أم سيتم التغطية عليها، ومواصلة الامور كالمعتاد ؟” وفي هذا السياق قال فورد انه عندما كان يخدم في بغداد كان من الصعب على المسؤولين الاميركيين اقناع مسعود برزاني بزيارة بغداد للتحاور مع المسؤولين والقياديين العراقيين من مختلف الخلفيات السياسية والدينية، وتابع ” وكنا نقول له اذا اردت الدفاع عن كركوك عليك ان تذهب الى بغداد لانها هي خط الدفاع الاول عن كركوك”. ولكن فورد يرفض مقولة ارغام الاكراد على البقاء في عراق موحد : ” هذا القطار غادر المحطة ولا يمكن ارغامه على العودة، هناك نسبة كبيرة من الشباب الكردي لا يجيدون العربية، ويريدون ان يعيشوا في دولتهم المستقلة. نكسة الاستفتاء ستؤخر مسيرة الاستقلال، التي لا تزال تواجه معارضة شرسة من ايران وتركيا ولكنها لن تقضي على الحلم الكردي بالاستقلال”.
ويرى فورد انه “لم يعد للولايات المتحدة خيارات جيدة في العراق” بسبب النفوذ الايراني المتجذر في البلاد، والذي يقيد من قدرة رئيس الوزراء العبادي على “التصرف كوطني عراقي، كما يرغب برأيي، لانه يتعرض لضغوط ضخمة من ايران عبر وحدات الحشد الشعبي الشيعية”. ويضيف فورد: “الاتجاه الذي يسير به السياسيون الشيعة في العراق، سلبي للغاية” . ومع ان فورد انتقد الطريقة التي تم فيها الاستفتاء في #كردستان، الا انه يتفهم احباط الاكراد ” لانه لم يعد في بغداد قيادات سنيّة فعّالة، كما لم يعد هناك قيادات شيعية مستقلة يمكن ان يتعاملوا او ينسقوا معها”. واعرب فورد عن قناعته بان وحدات الحشد الشعبي كانت تعتزم استعادة كركوك، ولكنها اجلت ذلك الى ما بعد تحرير الموصل. وحين جاء الاستفتاء استخدموه ذريعة للتحرك واستعادت كركوك. يذكر ان قيس الخزعلي قائد عصائب اهل الحق، وهو تنظيم شيعي شارك في استعادة كركوك، كان قد قال في 2015 ان وحدات الحشد الشعبي سوف تدخل الى كركوك اذا طلب سكان المدينة من الشيعة مثل هذا التدخل.
الاسد يتفوق وان لم ينتصر بعد
عندما تدخلت روسيا عسكريا في سوريا في صيف 2015، ادعى المسؤولون الاميركيون انذاك ان روسيا ستغرق في المستنقع السوري وتدفع ثمنا لذلك. ولكن مصادر اميركية مسؤولة قالت لـ”النهار” مؤخرا ان ادعاء ادارة الرئيس #اوباما بان التدخل الروسي فاجأها، هو مضلل لان وزير خارجية روسيا سيرغي #لافروف أكد لنظيره الاميركي انذاك جون كيري وفي أكثر من مناسبة، ان روسيا لن تسمح بسقوط نظام الاسد، وبانها مستعدة لمنع ذلك حتى ولو اضطرت للتدخل عسكريا، وفقا لهذه المصادر. ولهذه الاسباب حاولت ادارة الرئيس اوباما تبرير عدم تحديها للتدخل الروسي العسكري من خلال التحدث عن ان موسكو سوف تدفع ثمنا لتدخلها ولذلك لا داعي لموقف اميركي عدائي . الان وبعد سنتين على هذا التدخل، من الواضح ان روسيا لم تدفع الثمن الباهظ الذي قيل انها ستدفعه، واستخدمت سوريا وشعبها كمختبر لامتحان انظمتها العسكرية .
حقق جيش النظام السوري المدعوم بالميليشيات الشيعية من لبنان والعراق وافغانستان والتي جندتها ايران، زلتغطية من سلاح الجو الروسي، انتصارات ضد المعارضة المسلحة بمختلف اطيافها حول العاصمة دمشق وارغم المعارضة المسلحة على الانسحاب من المناطق التي كانت تسيطر عليها في حلب وحمص، كما استعاد السيطرة على داريا في الجنوب. وفي الاشهر الاخيرة كان هناك سباق عسكري بين قوات الاسد وميليشياته من جهة وقوات سوريا الحرة من جهة اخرى للسيطرة على أكبر مساحة ممكنة من شرق سوريا، للوصول بالدرجة الاولى الى ابار النفط في المحافظة.
ومنذ ان نظمت الولايات المتحدة الائتلاف الدولي الذي بدأ قبل اكثر من ثلاثة سنوات حملة جوية ضد تنظيم “الدولة الاسلامية” في سوريا، اصبت هزيمة هذا التنظيم الهدف الاولي والآني للولايات المتحدة، لا بل بدا احيانا في تصريحات المسؤولين الاميركيين وكأنه الهاجس الوحيد لهم. هذا التوجه الضيق، كان بعكس الاستراتيجية الروسية الاوسع في سوريا، والتي شملت الابقاء على نظام الاسد في دمشق، ودحر التنظيمات المعادية له من اسلامية وغير اسلامية، والتحضير لمرحلة انتصار نظام الاسد والاستفادة من عملية اعادة الاعمار وتعزيز النفوذ الروسي الاستراتيجي في سوريا، وايضا في العراق. ويشير السفير روبرت فورد الى ان هذا الهاجس الاميركي بهزيمة “الخلافة” الاسلامية دفع بواشنطن (خلال ولايتي اوباما وترامب) الى ” مساعدة أي طرف يمكن ان يساعدنا في محاربة الدولة الاسلامية وتنظيم القاعدة، وهكذا قدمنا المساعدات العسكرية لهذا الفريق وذاك دون أي تفكير عميق بما سيحدث في المستقبل”. واشار فورد في هذا السياق الى العرض الاستفزازي في ساحة النعيم وسط مدينة الرقة الذي اجرته عناصر نسائية تابعة لحزب العمال الكردستاني، امام صورة ضخمة لقائد الحزب عبدالله اوجلان، ويضيف فورد ” نحن نراقب الانهيار التدريجي لعلاقاتنا بتركيا، لان دعمنا لوحدات الحماية الشعبية، وهي النسخة السورية لحزب العمال الكردستاني جاء على حساب علاقتنا بتركيا”.
وبتوقع فورد بروز تناقضات داخلية في قوات #سوريا_الديموقراطية،واحتمال قيام قوات الحماية الشعبية بالتوصل الى تفاهم مع نظام الاسد، حول مستقبل دير الزور، ولكنه يتوقع ان ينجح الاسد لاحقا باستعادة السيطرة على ابار النفط في دير الزور والحسكةبعد هزيمة الدولة الاسلامية، وان روسيا سوف تساعده على تحقيق هذا الهدف. ويضيف: “في نهاية المطاف الاسد سيأكل قوات الحماية الشعبية الكردية بدعم من روسيا وايران، واذا بقي الاميركيون في شرق سوريا، وهذا برأيي خطأ كبير، فان الاسد سوف ينتظر بعض الشيء، قبل الانقضاض عليهم”، وخلص فورد الى القول ان #الاسد سيسيطر على معظم الاراضي السورية التي خسرها النظام، ولكن ذلك لا يعني انه انتصر بشكل حاسم. ويضيف انه كانت هناك أكثر من فرصة لاميركا خلال الحرب في سوريا للتأثير بشكل فعال أكثر على ما يحدث على الارض، “ولكن بعد ستة سنوات على بدء النزاع ، علينا ان نعترف انه لم يعد للولايات المتحدة أي نفوذ جدي في سوريا”.