مالك التريكي
Nov 11, 2017
المشهد الأول من السينما الإيطالية: في الفيلم الشهير «سينما باراديزو» يتجمع رجال في ساحة قرية بجزيرة صقلية بانتظار من يستأجرهم للعمل. يأتي الرأسمالي فيأخذهم جميعا، إلا واحدا يقول له: أما أنت، فاذهب إلى ستالين يمنحك عملا. يجيب «الشيوعي» الذي كثيرا ما تكررت عليه هذه المظلمة: سوف يأتي يوم ستالين، سوف ترون! كان هذا الإيطالي الفقير يحيا، في الأعوام التي أعقبت الحرب العالمية الثانية، على أمل قدوم طلائع الرفاق الروس لتحرير العمال من القهر الرأسمالي. لم يأت الرفاق. واضطر الرجل في أحد الأيام إلى أن يغادر هو وأهله على عربة محملة بالمتاع البسيط، ولكن ليس إلى روسيا وإنما إلى ألمانيا الشرقية.
المشهد الثاني من الواقع الروسي: بينت الاستطلاعات مرارا أن أعظم شخصيات التاريخ في نظر الرأي العام في روسيا المعاصرة هم بهذا الترتيب: ستالين أوّلا وبدون منازع، ثم بوتين ثانيا، فالشاعر بوشكين، فلينين، فالقيصر بطرس الأكبر.
يختزل المشهد الأول حقيقة تاريخية وسمت العقود الأولى من القرن العشرين: تعلّق ملايين من البشر في مختلف أرجاء المعمورة بالحلم الشيوعي أو الاشتراكي:حلم الثورة العمالية والأخوّة الإنسانية. وقد كان الحلم حقيقيا، أي أن الأمل في تحرر الطبقة البروليتارية على المستوى العالمي قد كان أملا متوقدا فعّالا تجندت له الطاقات وبذلت في سبيله الأرواح. وقد عبر المؤرخ أريك هوبسباوم عن مدى قوة روابط التضامن التي نسجها النقابيون والناشطون الشيوعيون على المستوى العالمي بقوله إن هذه الروابط الأممية قد تجاوزت حدود البلدان واللغات والديانات والقوميات، وإن شحنة الأمل الذي كان يحدو عامل المصنع، الذي ذكرته الفيلسوفة المناضلة سيمون فاي، بقرب اندلاع الثورة في فرنسا العلمانية في ثلاثينيات القرن العشرين هي شحنة الأمل ذاته الذي كان يحدو العمال في ألمانيا البروتستانتية، وفي الصين الكونفوشيوسية وفي إندونيسيا المسلمة. لذلك حق السؤال: هل في وسع أي حركة سياسية اليوم أن تدعي لنفسها مثل هذا الانتشار العالمي والتفاؤل التاريخي؟
ولا يعني تقرير حقيقة انتشار الحلم الاشتراكي على المستوى العالمي في العقود الأولى من القرن العشرين إنكارا لحقيقة أخرى هي وجه العملة الآخر: حقيقة الكابوس السوفييتي الذي لم ينتظر موت لينين ومجيء ستالين للحكم ليسدل ظلامه الحالك. فقد كتب الصحافي ألبير لوندر أثناء زيارة لروسيا عام 1920، بعد وصف واقع الجوع والبؤس و»الاسطبلات البشرية» التي توزع فيها وجبات الحساء الرديء الذي لا يساغ، «إن هذه هي الاشتراكية الدولية الثالثة. وفي الرابعة سوف يمشي الناس على أربع، أما في الخامسة فإنهم سوف ينبحون. إن البلشفية ليست الفوضى، بل إنها الملكية المطلقة، ولكن بدل أن يدعى الملك لويس الرابع عشر أو نيكولا الثاني، فإنه يدعى البروليتاريا. إن فئران تجارب لينين هم البشر. لقد قتل منهم حتى الآن مئات الآلاف».
ومعروف أن روزا لوكسمبورغ كانت من أوائل من انتقدوا النزعة الاستبدادية لدى البلاشفة، بينما كتبت سيمون فاي أن «الحكام القمعيين في روسيا المعاصرة إنما يلطخون ذكرى ماركس بما يعلنونه من حرارة الإيمان به»! ومع ذلك لا بد من التساؤل عن تفسير للمشهد الثاني: تفسير حقيقة انتشار الحنين في روسيا المعاصرة إلى الماضي الستاليني مع الحنين إلى الماضي القيصري في الوقت ذاته! حقيقة اجتماعية استخدمها نظام بوتين بحذق للالتفاف حول الذكرى المئوية للثورة، أولا لأن ايديولوجيته قائمة على القول بالاستمرارية: استمرارية السردية القومية الروسية دون انقطاع (أي أن ثورة 1917لا تمثل قطيعة مع ما سبق)، وثانيا لأنه ليس من مصلحة النظام أن تخامر المواطنين ذكريات ثورية!
التفسير المحتمل هو أن المسألة الاجتماعية (الحق في الكرامة والعدالة) لا تزال هي الإشكالية المركزية في المجتمعات السياسية المعاصرة. بل إن هذه الإشكالية قد تفاقمت خطورتها بسبب سطوة الرأسمالية المتوحشة التي تتغذى بآلام الناس ومحن الشعوب، والتي لا حلول عندها سوى الإمعان في إغناء القلة من الأغنياء وإفقار بقية الإنسانية. ولكن لا وجه لتوفير شروط الحق في العيش الكريم ـ الشروط السابقة على الحريات الديمقراطية مبدئيا وزمنيا ـ إلا في إطار سردية قومية جامعة لأن الأمم لا تحيا إلا بالاعتزاز بثقافتها وبالتعويل على ذاتها.
٭ كاتب تونسي