الرئيسية / home slide / لو كان في لبنان… شعب!

لو كان في لبنان… شعب!

24-02-2021 | 06:00 المصدر: النهار العربيباريس- فارس خشان

علم لبنان على أسلاك شائكة وسط بيروت

قبل أن يُنهي الاتصال الهاتفي المُثقل بشرح الوقائع المرّة التي يعاني منها اللبنانيون، قال لي: “لو أنّ هناك شعباً، لكان تحرّك”. كدتُ، لوهلة، أن أوافقه على استنتاجه، ولكنّني تمهّلت، فمحدثي مواطن لبناني، يقيم في لبنان، ويعاني ما يعاني منه اللبنانيون، أي أنّه جزء مكوّن للشعب الذي يُعلن انتفاء وجوده.حاولتُ تعميق تأمّلي، فلربما هو “محبط” من تركه وحيداً في الساحات التي كان قد سبق له أن ناضل فيها، ولكن تبيّن أنّه لم يحمل يوماً لافتة، ولم يشارك في تظاهرة.  ومع توالي الأيّام، ظهر بوضوح أنّ ما قاله لي محدّثي، هو لازمة تتردد على ألسنة كثيرة، حتى بدا أنّ جزءاً مؤثّراً من الشعب اللبناني لا يعتبر نفسه من الشعب الواجب عليه أن “يتحرّك”، بل يعتبر أنّ “التحرّك” مسؤولية غيره، حيث إنّ هناك طبقات شعبية عدّة: واحدة تتحرّك، ثانية تراقب، ثالثة تراهن، رابعة تتمذهب، وخامسة تستغل. ولعلّ هذه “الطبقية الشعبية” هي التي يُراهن عليها المتحكّمون بالقرار الوطني، حتى يتجرّأوا، في ظل الكوارث التي ينتجونها، على التمسّك بمناصبهم و”تأبيد” سيطرتهم والتحكّم باللعبة السياسية. ويرى الضالعون في العلوم الاجتماعية أنّ “الطبقية الشعبية” موجودة في معظم دول العالم، ولكن ليس لها تأثير سلبي إلّا حيث يتم الانقضاض على المبادئ الديموقراطية، من خلال تحطيم سلّم القيم، كما هو حاصل في لبنان. ففي الدول الديموقراطية، لا تُقاس التظاهرات الشعبية، سواء كانت مطلبية أو غاضبة، بعدد المشاركين فيها فحسب، بل بنسبة المواطنين المؤيّدين لها، أيضاً.  وفي هذا المجال، وفي سياق تظاهرات “السترات الصفر” في فرنسا، لم تكتفِ وسائل الإعلام بتعداد هؤلاء الذين افترشوا الطرق، بل ذهبت، من دون أي تسييس، الى قياس نسبة المواطنين المؤيّدة لهم. لم تصل نسبة المشاركين في التظاهرات، في أوجها، الى اثنين بالمئة من الفرنسيين، في حين أنّ نسبة المؤيدين لهم، في المراحل الأولى، تخطّت الثمانين في المئة من مواطنيهم. وبناءً على هذا التأييد، تراجعت الحكومة الفرنسية عن كل القرارات التي سبق أن اتخذتها وأشعلت الاحتجاجات في البلاد. إنّ هذا القياس للتوجّه الشعبي الذي يلغي التأثير السلبي لـ”الطبقية الشعبية”، غير متوافر في لبنان، مثلاً، بل إنّ الجميع يتستّرون بعدد المتظاهرين، لمنع إحداث التغيير المطلوب. وهذا التستّر يخلق هوة شاسعة بين المواطن والمسؤول، وبين مواطن وآخر، وبين الشعب ومصالحه، وبين الدولة واستقرارها، وبين فئة سياسية وأخرى. ويصبح هذا القياس للتوجّه الشعبي العميق أكثر ضرورة، متى تعطّلت أدوات الديموقراطية الفعّالة، مثل مجلس نيابي فعّال، وسلطة قضائية مستقلة، ووسائل إعلام موضوعية، في ظل استفحال الترهيب والقتل والاعتقال والاضطهاد والتبعية وارتهان الخدمات العامة وإثارة الغرائز المهدّمة للاستقامة السياسية، مثل المذهبية والطائفية والمناطقية. وتهديم سلّم القيم الذي تقوم عليه الديموقراطية، وحده يسمح للشعب بأن ينقسم بين مؤيّد ومعارض لقاتل موصوف، ولحزب مستتبع للخارج، ولحاكم يحمي أنانيته بتخويف طائفته، ولسلطوي فاسد يتخلّص من “الأوادم” بنسب عيوبه إليهم. وسلّم القيم هذا هو الذي يمنع قاضياً، مثلاً، من أن ينقضّ على منصب زميل له، جرى استبعاده لأسباب يعرف أنها اضطهادية وواهية، وهي التي تتيح للنوّاب أن يقبلوا أن تتمّ معاملتهم بطريقة مميّزة عن المعاملة التي يخضع لها ناخبوهم، وهي التي تعطي الفاسد مكانة مرموقة في صناعة القرار، وتسمح للفاشل بأن يكون رائداً في تكوين السلطات. إنّ محاولة فهم الدور الذي يلعبه الشعب في دولته، لم يعد تَرفاً ذهنياً في حالة لبنان، بل أصبح حاجة ملحّة لتجسيد الحلم بالإنقاذ، ذلك أنّ مسؤولاً فرنسياً، سُئل عن موقفه من الجدال المحتدم في لبنان، في موضوع تشكيل الحكومة الذي هو حجر الزاوية في “المبادرة الفرنسية”، فأجاب: “على الشعب اللبناني أن يحسم هذا الموضوع، بما يوفّر له مصالحه، فنحن بادرنا، وتوسّطنا، وفضحنا، ونصحنا، ولكن كل جهدنا ذهب هباءً، وحان الوقت للشعب اللبناني ليقول كلمته، ويُنقذ نفسه من هذا الهراء الذي يقتله، ونحن وراءه”. كلام صحيح في المبدأ، ولكنه يتضمن ثغرات كثيرة، لا يردمها إلّا شيء من التدويل الذي يطالب به البطريرك الماروني بشارة الراعي، فالاتحاد الأوروبي الذي تلعب فيه فرنسا دوراً مؤثّراً، لم يتعاطَ، على سبيل المثال لا الحصر، مع اغتيال لقمان سليم كما يتعاطى مع ملف المعارض الروسي أليكسي نافالني، ولا اعتمد في نظرته الى التظاهرات اللبنانية المعايير التي اعتمدها في نظرته الى التظاهرات في روسيا البيضاء، ولا وجد في استتباع لبنان لأجندة “الحرس الثوري الإيراني” ما وجده في استتباع روسيا لجزء من أوكرانيا. إنّ الشعب اللبناني، مهما قيل عنه وفيه، موجود بقوة، ولكنّ المعايير التي تُعتمد في النظرة اليه هي التي تحاول إلغاءه.