11-08-2021 | 00:43 المصدر: النهار


الراعي في بعبدا (تصوير نبيل اسماعيل)
لم يعد خطاب التخوين يهمّ أحداً، ولا يخيف أحداً، وحملات التواصل الاجتماعي لا تؤثّر إلّا في طبقة سياسيّة ضعيفة تحتاج دوماً إلى تلميح صورتها غير المضيئة أصلاً. الجيوش الإلكترونية ميليشيات وراء الشاشة، تؤثّر في الرأي العام، لكنّها لا تودي الى أي تغيير حقيقي، بل على العكس فالحملات الافتراضية تنفّس الطاقات وتحول دون تفجيرها في الشارع. معظم الناس “يفشّون خلقهم” خلف الشاشة الصغيرة، والذين يتحرّكون في الشارع معظمهم لا يملك حسابات عبر مواقع التواصل أو يتأثّر بها.
الحروب الإلكترونية تشدّ العصب، وتقوّي الجهة المستهدفة غالباً. ومثال على ذلك الحملة على البطريرك الماروني مار #بشارة بطرس الراعي، وهي حملة واهية، تعمل على إهانته واتّهامه بالعمالة والإساءة إلى موقعه، وهي في الوقت نفسه إذ تكشف عن أثر كلامه العميق لدى الطرف الآخر، فإنّها في الوقت عينه، أكسبت الراعي تعاطفاً وتأييداً ودعماً، لم تكن له في الأيام الماضية، إذ أنّ كثيرين، من المسيحيّين أنفسهم، لا يوافقونه الرأي دائماً، بل لهم على مسيرته ملاحظات وانتقادات. لكنّهم أمام الحملة التي يقودها “حزب الله” ضمناً، أعادوا توجيه البوصلة باتجاه #بكركي، سواء كانوا موارنة أو ارثوذكساً أو كاثوليك او سريانا وكلداناً، لأنّها تمثّل الوجدان المسيحي العميق، ولسيدها أُعطي مجد لبنان، وسيستمر ذلك ولو كره الكارهون. فقد تعرّضت بكركي على مرّ الأزمنة لمحاولات إضعاف هذا الموقع المُتقدّم، بل والحطّ من قدره، ومقاطعته أحياناً كمحاولة عقابيّة له، ولسيّده على مواقف سياسيّة مُحدّدة. والكل يذكر الضغوط المختلفة التي مورست على الصرح في زمن حبريّة البطريرك نصرالله بطرس صفير. وعندما يصدر الانتقاد، من جهة أو حزب أو جماعة لها طابعها الديني قبل السياسي، فإنّها تتّخذ أبعاداً أخرى انطلاقاً من محاولات مستمرّة تنبع من عقد مزمنة، وعندما يتم إعطاء الضوء الأخضر لرجل دين “ممتاز” لإطلاق النار المستمرّ على الصرح وسيّده، فإن الحملة، لا يمكن أن تكون عفويّة وبريئة، وإنّما مُنظّمة لها أهدافها التي لا تخرج عن أهداف الجهة المُنظّمة لها، تلك الأهداف البعيدة المدى، وليس السياسات اليوميّة القابلة للتحوّل لمصالح آنيّة.
أمّا الجانب الآخر من الحملة، ففيه خطاب التخوين. ذاك الخطاب البائد الذي استعملته الوصاية السورية للضغط على كل المعارضين. وكان يخيف لا لسبب كامن فيه، بل لأنّه كان يُفبرك من سلطة وصاية ظالمة وقادرة على إصدار الأحكام العرفيّة وتنفيذها من دون وجه حقّ وفي غياب الحقّ بالاعتراض أو الاستئناف.
أمّا المضمون فشأن آخر، إذ أنّ العمالة وفق معجم اللغة العربيّة المعاصرة هو “تآمر مع أعداء الدولة” ولا يُحدّد تلك الدولة إذا كانت “شقيقة – عدوّة”، أم “حليفة – عدوّة”، أم عدوّة فقط. فكل ارتهان للخارج هو عمالة، وكل إفادة ماليّة – ماديّة – عسكريّة من الخارج عمالة، وكل اصطفاف ومشاركة في حروب الآخرين عمالة، ولا يهمّ تصنيف الآخرين للعمالة. لهم تفسيرهم ولنا تفسيرنا، لهم رأيهم ولنا رأينا، لا نحن سنقنعهم، ولا هم سيبدّلون آراءنا. الوصول إلى نقطة مشتركة يتمّ بالتوافق السياسي أي بالزغل، لا بإبدال الحقائق ولا بالاقناع الذي لم ولن ينجح.
اتّهام البطريرك الراعي بالعمالة، مردود لأصحابه. المقاييس المعتمدة للوطنيّة أو للعمالة واضحة رغم محاولات إثارة الجدل حولها. و”أنصار” البطريرك لا يرون إلى الآخر إلا عميلاً للنظام السوري أو لإيران. وقد نفّذ هذا الآخر سياسات لا تخدم بالضرورة المصلحة الوطنيّة رغم انه قدّم شهداء على مذبح الوطن. وهذه الشهادات ثمرة مقاومة يُقدّرها الجميع عند الحدود، ولكن ليس في الداخل، وفي دول أخرى شقيقة أو صديقة للبنان.
الحملة على البطريرك فصل جديد من الاستقواء المُمارس ضمناً بقوّة السلاح من دون أن تنجح كل محاولات تنظيم هذا السلاح، عبر استراتيجيّة دفاعيّة موعودة منذ اتفاق الطائف، ومنتظرة من دون جدوى ومن دون أمل في التوصّل إلى توافق حول خطّة دفاعيّة. الحملة ستُقابل بحملة أو بحملات، والأهم بمواقف داعمة للبطريرك تُعيد الفرز والانقسام الطائفيّين، وسيدفع إلى التجرّؤ على رموز وقيادات كانت إلى زمن قريب في منأى عن الهجوم المباشر.
التهديد لم يعد يخيف أحداً، حتّى القتل لم يعد يُخيف. فانفجار المرفأ حصد 211 دفعة واحدة، ولم تعد هناك قيمة للموت، رغم أن جرائم الاغتيال لن تكون مُستبعدة إذا تأزّمت الأوضاع أكثر، لردع كل المعارضين، ومحاولة تثبيت أمر واقع جديد، وهي محاولة تتكرّر بوسائل عدّة.