الثنائي الشيعي.
الاهتزاز المستمر الذي يتعرض له منذ أيام #تفاهم_معراب الحديث الولادة نسبيا، ويوشك ان يفضي الى سقوط ثنائية سياسية مارونية (بين “التيار الوطني الحر” وحزب “القوات اللبنانية”) راهن كثر على امكان قيامها ونهوضها كتجربة وليدة من شأنها ان تضبط تناقضات الساحة المسيحية وتخفف عن كاهلها عبء صراع مزمن بين هذين الطرفين الاساسيين في هذه الساحة، وتؤذن بانطلاق تجربة شراكة سياسية مختلفة ربما افرط البعض في الرهان عليها لتحاكي الثنائية السياسية الشيعية التي أخذت شكلها الحالي بعد عام 2005 لتصير تجربة فريدة ونموذجاً يصير مثالاً يحتذى لكثيرين.
اللافت ان بعض المهتمين بالموضوع ذهب الى حد التذكير بقواسم مشتركة وعناصر متشابهة بين ظروف نشوء نموذج الثنائية المارونية قيد التكوّن والتشكّل وبين الثنائية الاولى التي تكرست وفرضت نفسها امراً واقعاً بعد صراعات استمرت نحو عقدين من الزمن، وكانت في بعض محطاتها مواجهات دموية، وبين الثنائية الاكثر حداثة والتي دخل قطباها ايضاً في مواجهات وصراعات تجلّت ذروتها في ما صار يُعرف لاحقاً في القاموس السياسي اللبناني بـ”حرب الالغاء” العسكرية التي أعقبتها حروب الغاء سياسية اتسمت بالحدة واستمرت حتى ابرام “تفاهم معراب” الذي عُدَّ في حينه حدثاً مميزاً انقسم المراقبون حيال امكان صموده او احتمال انفراط عقده.
وعليه، وحيال المشهد الحالي الحامي، فان السؤال المطروح الآن بالحاح هو: ما هي الاسباب العميقة التي أمّنت نجاح تجربة الثنائية الشيعية واستمراريتها؟
وفي الموازاة، لماذا تحتاج الثنائية المسيحية الى كل هذا الجهد لاستيلادها وكل هذه العناية الفائقة لتستمر طوال هذه الفترة القصيرة نسبيا، ولماذا كل هذه الهجمة المنذرة بامكان انهيار”التفاهم” ومعه انهيار الآمال بانصرام ثنائية مسيحية كانت الى حد ما واعدة وحبلى بالآمال؟
يعتبر استاذ علم الاجتماع السياسي في الجامعة اللبنانية سابقا والباحث السياسي الدكتور طلال عتريسي في حديث مع “النهار” ان “تجربة الثنائية السياسية الشيعية هي تجربة استثنائية يصعب تكرارها واستنساخها”. ويعزو صمودها الى اسباب عدة ربما غير متوافرة عند مجموعات طائفية او سياسية اخرى في لبنان، في مقدمها نجاح طرفَي هذه الثنائية وبعد جهد جهيد في رسم حدود تفصل بين دور كل طرف في العملية السياسية، واستطراداً في الحصة الشيعية في الدولة، فارتضى كل فريق بما قُسِم له وانتفت بعدها الى حد بعيد حالات التنافس والتصارع والتنازع، خصوصا ان “حزب الله” مؤمن تماما بمشروع عميق ومصمم على السير قدما به، وهو (المشروع ) بالنسبة اليه في مقام أعلى من أي مكاسب واية اغراءات اخرى، أي انه مستعد في سبيل هذا المشروع للتضحية بأي شيء آخر. لذا كان الحرص على ديمومة الثنائية الشيعية امراً واقعاً.
وفي المقابل، يضيف عتريسي، فان ثنائية “تفاهم معراب” يصعب ان تتحول الى ثنائية دائمة مستقرة ومحصّنة في وجه الخضّات، اذ ان طرفيها ينظران الى التفاهم على انه طريق الى مكاسب أعلى في الحكم والسلطة، لاسيما ان زعيمي القوتين لا يكتمان اطلاقا رغبتهما في الوصول الى سدة الرئاسة الاولى، أي أنها ثنائية قائمة في الضمن على التنافس وليس على التكامل وتوزيع الادوار والمهمات على نحو مرضٍ ومجزٍ. وهذا ما يفسر الاهتزاز الحاصل وتلويح طرف من الطرفين بالتحلل من موجبات “تفاهم معراب”.
وللوزير السابق والباحث السياسي سجعان قزي رؤية خاصة للموضوع خلاصتها الجزم بانه “لا مكان لثنائية سياسية تنهض وتستقر في البيئة السياسية المسيحية لا حاضرا ولا مستقبلا”. ويقول لـ”النهار”: “شاهِدُنا على ذلك ان التجارب التاريخية المعاصرة للتحالفات والتفاهمات السياسية في الشارع المسيحي عموما والماروني خصوصا، تُظهر بوضوح:
– ان هناك مكاناً لثنائية متنافسة كما هي حالات متعددة منذ ثلاثينات القرن المنصرم حتى اليوم.
– امكان نهوض تجربة زعامة حصرية كما هي الحال في تجربة الرئيس الراحل بشير الجميل.
– اطار جماعي يجمع اكثر من قوة وزعامة على غرار تجربة “الجبهة اللبنانية” ابان سني الحرب الاهلية وقبلها تجربة “الحلف الثلاثي”.
ولم يكن هناك يوماً تجربة ثنائية مسيحية تتحكم بقرار الساحة المسيحية”.
ويرى قزي ان “الثنائية الشيعية تكاد تكون نسيج وحدها في الاجتماع السياسي اللبناني، وبالطبع ثمة اسباب استثنائية توفر لها مناخات الاستمرار، ابرزها ان هناك ضابط ايقاع واحد يرعاها ويضبط حركتها (السوري والايراني مداورة)، فضلاً عن وجود قضية سامية بالنسبة الى الفريقين يعملان على اساس تحقيقها وهي المقاومة الان وقبلها مسألة التعديل في بنية النظام اللبناني ليكون للشيعة دور اوسع”.
ويكمل: “هناك عامل آخر ايضاً هو شخصية قائدَي التنظيمين، اي الرئيس نبيه #بري والسيد حسن #نصرالله، وحاجة الحزب الملحة الى داعم وحاضن بمستوى الرئيس بري وموقعه الداخلي والاقليمي والدولي”.
ويضيف: “الشيعية السياسية هي عملياً حديثة العهد والتجربة، وهي ترسي اسس شراكتها وتؤصل تجربتها، في حين ان قواعد اللعبة السياسية في الاجتماع السياسي المسيحي عموماً مختلفة تماما، فهي اكثر عراقة اذ تعود جذورها الى نحو قرن من الزمن، وهي لم تكن يوما إلا حالة تنافسية، اذ كانت استهلالاً جزءاً من الحالة الصراعية الجبلية، اي حال الصراع القيسي – اليمني، ثم كانت حالة الصراع التي استمرت عقوداً بين الحالة الدستورية والكتلوية، ثم بين الشهابية والشمعونية، ثم بين “الحلف الثلاثي” (ظهر ابان انتخابات عام 1968 وجمع حزبَي الكتائب والاحرار والكتلة الوطنية)”.
وفضلاً عن ذلك، يؤكد قزي ان “ثمة وقائع فرضت مثل هذه الحالة التصارعية، منها الصراع على مقاليد السلطة بعد نشوء الدولة، من دون ان ننسى ايضا عامل الولاءات المتنوعة والعلاقات الخارجية للقيادات المسيحية”.
وبعد هذه السيرة والمسار، يستنتج قزي ان “الثنائية السياسية هي حالة غير مألوفة في الاجتماع السياسي المسيحي، وهي لن تنوجد وتفرض نفسها او على الاقل لن تتكرر تجربة في الساحة المسيحية على غرار التجربة الشيعية”.
ibrahim.bayram@annahar.com.lb