سعيد خطيبي
Sep 29, 2018
القدس العربي
■ يخطئ من يظن أن الجزائري لا يقرأ؛ بل هو يقرأ كل ما تقع عليه عيناه، من وصفات أدوية وحبوب إلى وصفات طبخ، يتصفح، كل يوم، جرائد، ويهتم بمناشير رؤساء نوادي الكرة، يُطالع منشورات أصدقائه على الفيسبوك، ولا يبالي بما يضيع منه من وقت، في التلصص على رسائل بين عاشقين، يقرأ ما يكتبه الرقاة، وما يرد على ظهر السلع المستوردة، وإنما مشكلته مع الكتاب. كلما لمح كومة ورق، مصفوفة، محصورة بين دفتي غلاف، يعلوه عنوان واسم مؤلف، شعر بصداع، وأحيانا غثيان. يُحافظ على مسافة بينه وبين الكتاب، لا يدنو منه، التزاما بما ورثه عن المدرسة، وعن بعض الآباء، بأن البيبليوفوبيين هم أسعد الناس.
قد نبحث له عن أعذار، ونقول في السر، إن الجزائري لا يقرأ كتبا، كي يستغل وقت فراغه في حضور مسرحيات أو أفلام، لكن المسارح وقاعات العروض، خالية على الدوام. ربما هو كذلك لأن أسعار الكتب غالية، ووضعه الاجتماعي غير مريح، لكن الكتب متاحة، في أكثر من مكان بالمجان، والمكتبات العامة تكاثرت، أو أنه لا يقرب الكتب لأنه لا يملك وقت فراغ، لكن الجزائريين، ولا سيما الشباب منهم، في جزء معتبر منهم، بلا عمل، وإن عملوا فهم يسرقون من ساعات الدوام، لذلك علينا أن نبحث عن أسباب أخرى، لنفهم لماذا يكره الجزائري الكتاب. هل لأنه يخاف على بصره، كي لا يضعف، ويصير مثل مولود معمري أو الطاهر جاووت، بعدستين مدورتين؟ هل يخاف أن يتساقط شعره، مثلما تساقط شعر رشيد بوجدرة؟ وهل تلك الجزائرية التي أحجمت عن الكتاب، تخشى مطالعة الروايات، كي لا تزحف، على وجهها تجاعيد، مثلما حصل مع آسيا جبار؟
لطالما صادفنا كتبا في مديح القراءة، ألفها كتاب معروفون، من أمثال ألبرتو مانغويل أو ماريو فارغاس يوسا، لكن لو أقام هذان الكاتبان في الجزائر لألفا نصوصا في «كراهية القراءة»، فعلاقة الجزائري بالكتاب، ينطبق عليها إلى حد ما، كتاب «20 سببا للتوقف عن القراءة» للفرنسي بيار مينار، الذي نكاد نجزم بأنه سود كتابه ذلك مستعينا بالنموذج الجزائري. فقد قدّم فيه جملة من الأسباب للانصراف عن الكتاب، ولو أعدنا النظر إليها فلن نجد بيئة ملائمة لها أفضل من بلدنا. فالكتاب لن ينفع في المغازلة، ولا في كسب انتباه الجنس الآخر، مثل هاتف «آي فون» أو قبعة إيطالية، أو تسريحة شعر تتجاوز قيمتها ثمن «تاريخ الجزائر الثقافي» بمجلداته العشرة. كما إن قراءة كتاب، في جوهرها، تستلزم عزلة، أن يختلي القارئ بنفسه، أن يفر مما حوله، أن يعكف على كتابه، بينما الآخرون غائبون عنه، وهو أمر لا يتوافق مع خاصية الجزائري، فهو اجتماعي بطبعه، لا يستكين إلى صمت، يفضل الثرثرة وسماع الآخرين، على أن يصرف ساعات في فهم «نجمة» كاتب ياسين، التي عجز نقاد ومختصون في تفكيكها. أضف إلى ذلك أن الجزائري يعتزل الكتب، كي لا يظهر في منظر يُثير الشفقة، كما هو حال بعض مدرسي الأدب، والذين على خلاف مدرسي المواد العلمية، لا يهتمون كثيرا بمظهرهم، يمنحون انطباعا أن القراءة أنهكت أجسادهم وأعينهم، ويقطعون بذلك شهية الشباب في تصفح الرواية أو القصة أو الشعر.
إن اقتناء أي كتاب يترتب عنه اقتناء كتاب ثانٍ، فثالث، وهكذا، حتى تتراكم الكتب، في البيت، والجزائري ليست له ثقافة المكتبات المنزلية، يستعيض عن الكتب بالأواني الفخارية أو النحاسية، لتزيين الصالونات، وغرف الضيوف، كما إن ورق الكتب لن ينفعه في التنظيف ولا في حفظ الأغذية، لذلك يفضل بدلا عنه ورق الجرائد، وفي الغالب يستعين بشراء وتصفح جرائد صفراء، تزدحم فيها أخبار مشاهير الغناء والتحذير من عذاب القبر، لأنها تستخدم حبرا لا ينحل في الماء، أفضل من ذلك الحبر، الذي تستخدمه الصحف اليومية، والذي يسود الأيدي، كلما أمسكنا بها. لقد جرت العادة أن من يقرأ كتبا فهو مثقف، وهي صفة غير محمودة، في الجزائر، هي أشبه بمن نصفه بالكسول، لذلك يتجنب الجزائري قدر الإمكان المبالغة في شراء كتب أو قراءتها، كي لا يصفه أقرانه بالمثقف، ولا يتحمل تلك الشتيمة، فهو يفضل أن ينعت بأي وصف آخر غيرها. كما إن الإكثار من قراءة الكتب هو نقيض النجاح المهني، كما أشار إلى ذلك بيار مينار، فأرباب العمل يفضلون موظفا خدوما، مطيعا، يفعل ما يؤمر، بدل موظف يصرف وقته في القراءة، نظرا لما يشكله ذلك من خطر على سير الشركة، ومن اضطرابات، قد تبرز، مع الوقت، بسبب إكثار ذلك الموظف من مراودة الكتب، وتحمسه للقصص التي يقرأها ورغبته التي ستنمو في لا وعيه، بأن يتماهى مع شخصياتها.
هناك جملة كتبها سوفوكل، بما معناه أن الحكمة تزيد من تعاستنا، وقراءة الكتاب من شأنها أن تزيد من حكمة الجزائري وتصيّره أكثر رزانة، وهو أمر يتعارض مع فكرة سوفوكل، ولا أحد يريدها لنفسه، لهذا فإن الجزائري يُقاطع الكتب، مهما كان حجمها صغيرا، ومهما أغراه شكلها ولوحات أغلفتها، لكي يُحافظ على طيشه وتهوره، ويعيش سعيدا.
عندما نشتري كتابا، فنحن لا نقرأ على غلافه أي عبارة تحذير أو تنبيه، كأن يكون كتابا ممنوعا على القصر أو الحوامل أو كبار السن، لكن في الجزائر وحدها، كونها بلدا تعلمنا في المدرسة أنه لا يُشبه البلدان الأخرى، تتصدر الكتب فيه عبارات تحذير، لا يراها ولا يعيها، سوى من سولت له نفسه الاقتراب من القراءة، وهي عبارات تشبه تلك التي نقرأها، على علب السجائر، لهذا حين يدخل الجزائري مكتبة، فهو يسأل عن أدوات مدرسية، لأبنائه، أو أغراض مكتبية له، ولا يقترب من الكُتب. ثم هل يُعقل أن تتحول مكتبة إلى قرطاسية؟ هذا أمر يتكرر عندنا، ولا أحد يحتج، فالتاجر يريد إعالة نفسه، والزبون يعرف أنه بحاجة إلى أشياء أخرى، عدا الكتب.
وعلى مقربة من صالون الجزائر الدولي للكتاب، الذي يعرف، كل عام، إقبالا كبيرا، من زوار؛ من مراهقين إلى كبار السن، نتساءل ببراءة: ماذا يفعل أولئك الناس، الذين يحتشدون بين أجنحة دور النشر، مع العلم أنهم يقضون العام كله في مقاطعة الكتب؟
٭ كاتب جزائري