الحياة
04052018
ظهرت منذ مطلع 2018 عشرات المطبوعات المخصصة لإحياء الذكرى الخمسين لفعاليات وأحداث العام 1968، والتي جرت في الكثير من بلدان العالم، وشكّلت نقطة تحول مهمة في تاريخ الإنسانية، وفي المجتمعات التي جرت فيها، باعتبار أنه يتم النظر إلى تظاهرات واحتجاجات فرنسا قبل نصف قرن على أنها الأعمق تأثيراً في تاريخ ذلك البلد المحوري، الذي شهد مولد «أم الثورات» في التاريخ الإنساني الحديث، في العام 1789.
وكان القاسم المشترك لفعاليات 1968 هو الدور القيادي للشباب فيها، واعتراض، بل وتمرد، هؤلاء الشباب على الأوضاع القائمة في مجتمعاتها، مع الاختلاف، بل والتباين أحياناً، بين تلك الأوضاع ما بين حالة دولة وأخرى. وكذلك اشتملت مواطن التشابه على التحولات التي نتجت عن تلك الحركات الاحتجاجية، من حيث ما أدخلته من تغيير مجتمعي جذري وما أملته من مراجعات لدى قادة الدول التي جرت بها وما فرضته من أولويات مختلفة نوعياً عما سبق. وأيضاً كان أحد أوجه التشابه هو الشعور بعدم الرضا، بل ربما الإحباط، لدى بعض قادة تلك الحركات معتبرين أنها لم تحقق كل ما سعت إليه آنذاك. وأخيراً وليس آخراً يكمن وجه للتشابه في ما خلّفته تلك الفعاليات من آثار فكرية ومفاهيمية وثقافية وفنية بعيدة المدى، نزعم أنها أثّرت على مسيرة الإنسانية ككل وبقيت معنا حتى الآن. ولكل هذه الأسباب، وغيرها، استحقت الذكرى الخمسون لأحداث 1968 ما تلقاه من اهتمام على مستوى العالم بأسره، خصوصاً في الدول التي شهدتها، وهو ما قد لا يكون في بعض الحالات اهتماماً رسمياً، ولكنه في الأحوال كافة مجتمعياً وإعلامياً وثقافياً وفكرياً. وربما كان التأثير الأبرز ضمن فعاليات ذلك العام هو ما دار في فرنسا، والتي أصبحت معه الحالة الأكثر، والأكثر كثافة من حيث حجم الاحتجاجات، والأشد تنوعاً من حيث شمولها قطاعات عدة من الشباب من طلاب المدارس والجامعات والفنانين والمثقفين وشباب الحضر عامة. وهي احتجاجات قلّل البعض من شأنها في البداية ولكن أيقن الجميع في ما بعد عمقَ تأثيرها. فهي أدت في نهاية المطاف، ضمن نتائج أخرى، إلى استقالة الزعيم الفرنسي شارل ديغول في 28 نيسان (أبريل) 1969، بعد أن تعهد بذلك في حالة عدم حصوله على الدعم الشعبي لصالح اقتراحات له في شأن ما أسماه بـ «إصلاحات دستورية وحكومية» طرحها في استفتاء عام دعا إليه. حدث ذلك على رغم رصيد ديغول صاحب الدور التاريخي في انتصار فرنسا على النازية والفاشية في الحرب العالمية الثانية، وكمؤسس وأول رئيس للجمهورية الفرنسية الخامسة. فلقد تعرض لاهتزاز في شعبيته، بعد مرور حوالى أحد عشر عاماً أمضاها رئيساً للجمهورية الفرنسية، وكانت انتفاضة الشباب الفرنسي في 1968، والتي تضمنت مطالب وطنية وشعبية وفئوية على حد سواء، هي صاحبة الأثر الأكبر في هذا التراجع في مكانة ديغول لدى الشعب الفرنسي. وفي تشيكوسلوفاكيا (التي انقسمت بعد الحرب الباردة إلى التشيك وسلوفاكيا) لم يطل ما أطلق عليه «ربيع براغ»، في إشارة إلى حالة الانفتاح والانفراج السياسي الداخلي آنذاك وما شهده ذلك البلد من هامش، توسّع في شكل مضطرد، لممارسة الحريات والحقوق المدنية والسياسية وحدوث حراك مجتمعي نابض أفرز بدوره حواراً مفتوحاً للأطراف الوطنية كافة وبلا سقف أو نتائج محددة سلفاً. وسرعان ما انهار ذلك «الحلم» تحت وطأة التدخل العسكري المباشر من جانب الجيش الأحمر السوفياتي وبقية جيوش الدول الأعضاء في حلف وارسو، تطبيقاً لما عرف آنذاك بـ «مبدأ بريجنيف»، في إشارة إلى سكرتير عام الحزب الشيوعي السوفياتي في ذلك الوقت، ليونيد بريجنيف، والذي منح دول حلف وارسو حق التدخل في أي دولة عضو في الحلف تتعرض لخطر الخروج من إسار النموذج السوفياتي.
ولكن أحداث 1968 لم تقتصر على القارة الأوروبية بل انتقلت عبر المحيط الأطلسي لتصل إلى الولايات المتحدة الأميركية، والتي لم تكن أفاقت بعد من انعكاسات اغتيال مارتن لوثر كينج، قائد دعوة الحقوق المدنية للأميركيين ذوي الأصول الأفريقية. فقد أخذت أحداث 1968 بعداً محورياً متمثلاً في إعلان العداء للحرب الأميركية في فيتنام، والمطالبة بالانسحاب الأميركي من الهند الصينية، سواء من الجهة العسكرية المباشرة أو التدخل بوسائل أخرى. واتسع الاعتراض على الحرب ليشمل، إلى جانب الشباب، فنانين وفرق موسيقية ورياضيين بارزين وغيرهم من الشخصيات العامة. وتجسّد الأمر في أحد أشكاله في حركة ذات طابع عصيان مدني تمثّلت في رفض أداء الخدمة العسكرية في الجيش الأميركي في فيتنام. ولئن كان قرار الانسحاب من فيتنام قد تمّ اتخاذه من جانب القيادة السياسية الأميركية بعد احتجاجات 1968 بسنوات، فلا شك أنها شكّلت نقطة تحول نوعية وتراجعاً لاتجاه إما داعم أو غير مبالي بازدياد التورط العسكري الأميركي في فيتنام. وهو الأمر الذي تلازم مع تصاعد الخسائر الأميركية هناك، في البشر والعتاد على حد سواء. ولكن حركة الاحتجاج كانت أوسع بكثير من مجرد موضوع الحرب في فيتنام، بل كانت في مكون مهم منها اعتراضاً على نزعات وظواهر استهلاكية وترفية في المجتمع الأميركي، وكذلك على سيطرة رأس المال عموماً على مناح كثيرة في ذلك المجتمع.
وفي أفريقيا، وتحديداً في شمالها وفي قلب الوطن العربي، تمثلت فعاليات ذلك العام في تظاهرات شبابية واسعة في مصر، ربما كانت هي الأولى في ذلك العام، وتحديداً في شهر شباط (فبراير)، حيث بدأت بالطلاب وانضم إليهم العمال وفئات أخرى، وبدأت تلك الحركة بالتظاهر احتجاجاً على ما اعتبره المتظاهرون أحكاماً مخفّفة ضد قادة سلاح الطيران المصري بعد تعرضهم للمحاكمة بسبب التقصير الذي أدى إلى هزيمة 1967. إلا أنها سرعان ما توسّعت لتشمل المطالبة بالديموقراطية وبشن حرب شعبية لتحرير الأراضي المصرية والعربية المحتلة. وكانت هذه هي أول تظاهرات شعبية معترضة على سياسات الرئيس جمال عبدالناصر منذ تظاهرات أزمة مارس 1954. وعلى رغم ما اعتبره عبدالناصر تجاوباً مع مطالب التظاهرات الشبابية ممثلاً في إصدار بيان 30 مارس 1968، حيث التعهد بإجراء انتخابات حرة من القاعدة إلى القمة لكل مناصب التنظيم السياسي الوحيد في مصر آنذاك (الاتحاد الاشتراكي العربي)، والوعد بإصلاحات ديموقراطية بنيوية بعد «إزالة آثار العنوان»، أي بعد تحرير الأراضي المحتلة، إلا أن قطاعات من الشباب عادوا للخروج في تشرين الثاني (نوفمبر) 1968، وربما انضمت إليهم قطاعات أخرى، لرفع المطالب نفسها وغيرها. وكان اللون الغالب على القوى القائدة لفعاليات 1968 الاحتجاجية عبر العالم، القائمة على أكتاف الشباب في الأساس، هو اليسار، ولكنه في غالبية الأحوال لم يكن هو اليسار التقليدي الحاكم في بلدان شرق أوروبا المنضوي تحت لواء العباءة السوفياتية حينذاك، أو يسار الأحزاب الشيوعية في دول وسط وغرب أوروبا آنذاك، والتي خضع معظمها لتأثيرات «ستالينية» من قبل الحزب الشيوعي السوفياتي، بل كان يساراً جديداً، وعن حق، شعر من جهة بوطأة القبضة السوفياتية على اليسار التقليدي، ولكنه أيضاً، ومن جهة أخرى، كان، مثله مثل اليسار التقليدي، وإن تغيّر بعض الأسباب، رافضاً في شكل مطلق النموذج الرأسمالي. وكان هذا اليسار رافضاً أيضاً لأي سلطات ذات طابع هرَمي في أي اتجاه داخل الدولة والمجتمع أو على أي صعيد إقليمي أو دولي. وكذلك كان معترضاً على الشمولية التي اتسم بها النموذج السوفياتي، معتبراً إياها مناهضةً لجوهر رسالة اليسار الإنسانية. وكان هذا اليسار بدوره ساعياً لتأكيد أن ثمة حاجة لديموقراطية حقيقية، عريضة وواسعة، تجسد مفهوم المشاركة في عملية صنع القرار، خصوصاً من جانب الشباب، وبغض النظر عن المسميات والعناوين. وتأثّر هذا اليسار، سواء داخل الحالات الأربع التي أشرنا إليها، أو خارج حدودها وعلى صعيد العالم الأرحب، بمعطيات فكرية مثل أطروحات «مدرسة فرانكفورت» وغيرها. ويبقى أن استلهام الدروس من فعاليات ذلك العام له قيمته ودوره في التعامل ليس فقط مع الحاضر، باعتبار أنه ما زال هناك من لا يمنح فعاليات 1968 حقها من حيث الإقرار بتأثيرها وتداعياتها، ولكن أيضاً مع المستقبل، والذي بالضرورة يجب معه معرفة كيفية تكيف قيادات تلك الحركات مع العالم من حولهم، بل ورؤية هذه القيادات اليوم لفعاليات ذلك العام وتقييمهم لها من منطلق ما مر به العالم من وقتها، وهو كثير. وكذلك السعي لمعرفة تقييم فعاليات ذلك العام من وجهة نظر خصومها أو من جانب باحثين أو محللين أو أكاديميين مفترض فيهم الموضوعية.
* كاتب مصري.