اخبار عاجلة
الرئيسية / home slide / لماذا لا يبتسم الألمان؟

لماذا لا يبتسم الألمان؟

03-11-2021 | 01:00 المصدر: “النهار”

سمير عطالله

ألمانيا 1961 (أ ف ب).

“لم يحدث أبداً ان كانت هناك حرب جيدة أو سلام رديء”.

              بنجامين فرنكلين

ما هي #الحرب؟ نحن لم نعرفها كما عرفها الآخرون. المعارك الكبرى جرت خارج مدن العالم العربي، حيث تقاتل المارشالات والجنرالات في صحراء مصر وليبيا لمنع المانيا من الوصول الى  السويس، ومنها الى النفط العربي. المارشال رومل والمارشال ويفل والمارشال مونتغمري. وجرت معارك محدودة في سوريا ولبنان. ثم بين قوات فرنسا الحرة (ديغول) وفيشي. لكن الحرب نفسها، لم نعرفها. لم نرَ مدينة دُمّرت مئات المرات مثل درسدن. لم نشاهد هيروشيما إلا في شرائط الأخبار السينمائية. وكانت كل أفلام هوليوود، بما فيها الكوميدية، عن الحرب. وملأت حياتنا اعمال ادبية مثل روايات همنغواي.  وفي فرنسا كانت الأعمال المسرحية والشعرية والروائية تدور حول الحرب. ومقابل النزعة الوجودية في باريس ظهرت في انكلترا، بالروح نفسها، موجة اللاانتماء، مع كولن ولسون وجون اوزبورن، “اللامنتمي” و”تطلّع خلفك في غضب”.

تأثر أدباؤنا الكبار بالإعصار الوجداني الذي زلزل اوروبا في الوعي والعدم. وصدرت اعمال فلسفية رائعة مثل “الصراع في الوجود” لبولس سلامة، و”قرف” لفؤاد كنعان، ونقلت “الندوة اللبنانية” جزءاً آخر من خلال بعض ارقى المحاضرين، مثل كمال جنبلاط ورينه حبشي والأب يوحنا مارون.

عندما سافرتُ الى المانيا وباريس العام 1961 كان قد مضى على نهاية الحرب نحو 15 عاماً. كل الآثار الخارجية كانت قد اختفت. الخرائب بُنيت. القطارات يحمل ركابها حقائب، لا اكياسا. النساء عدن الى وضع القليل من المساحيق، لكن اكثرهن ما يزال ينتعل الاحذية شبه الرجالية بدل الكعوب العالية. أين هي الحرب إذن؟ تلخصها ثلاثة أسطر: القتلى 70 الى 80 مليوناً، وعدد الضحايا الأكبر كان في الاتحاد السوفياتي. هذا كل شيء؟  تقريباً. بلى. هناك ثلاثة أو اربعة اسماء يجب تذكّرها: هتلر، ستالين، روزفلت، ديغول، بيتان. الخ…

سوف أمرّ بعد سنوات على مخزن للاشياء القديمة في مدينة بيربينيان على حدود اسبانيا. طرحت على صاحبة المكان السؤال الذي يطرحه الجميع في فرنسا: اشتراكية أم ديغولية؟ اجابت في غضب: بتيانية!

كان يجب ان أحزر من وجهها الخشبي. مزّق بيتان فرنسا ومضى. بطل في الحرب الأولى، خائن في الثانية. كنت اظن ان الحرب هتلر وستالين وبيتان. ثم بدأت اسمع ممن التقيهم أن اهاليهم فقدوا عقولهم في الحرب. وفي مرقص جماعي يبدو أنه كان ثكنة في الماضي، قالت لي امرأة أنها فقدت زوجها واشقاءها وما تزال تنتظر عناوين مقابرهم. وأكملتْ كأس البيرة الضخمة. وشرحت بكل بساطة أنها تأتي الى هنا غالباً بحثاً عن رفيق. وقالت وهي تشعل سيجارتها: “أنت تعرف طبعاً ان بعض مدن المانيا فقدت ثلثي رجالها. مثل برلين”. قدمت لها سيجارة، فأخذت من حقيبتها قطعة 10 فنكات. قلت لها هذه فضيحة من حيث انا قادم، قالت هذا امر طبيعي هنا. فقد كان هناك زمن لم ترَ فيه العشر فنكات. أنت لا تعرف الحرب”.

كل هذا لأنني طرحت عليها سؤالاً غبياً: لماذا لا يبتسم الألمان؟ قالت ان ستالين امر جنوده باغتصاب كل امرأة المانية وأن لا يرتضوا قبولهنَّ الطوعي. قرأت في ما بعد ان برلين التي كانت الأكثر عداء للنازية وهتلر، هي التي دفعت افدح الأثمان لحربه. سافرت الى هناك قبل الجدار وبعد سقوطه. لم أرَ في حياتي تعبيراً عن الوجوم ثم عن الفرح، كما رأيت على وجوه برلين. مدينة الحروب والبحيرات. بُنيت في الغابة وسط الهدوء والبرد ورفعت حرارة العالم مرتين. قادها نمسوي فاشل ومريض، مرتين الى الحرب، ثم انتحر في قبو مصفح، لكي لا يجيب عن سؤال: لماذا كل هذا؟ حظ  المانيا الوحيد انه لم يكن لديها اولاد يرثون أضخم ذرة جنون في التاريخ.

القطار اجمل وسائل السفر. ما ان تدخل المقصورة وتلقي تحية المساء حتى تبدأ صداقة عفوية بين الجميع.

يقول الألمان: “الناس ملزمون بأن يصبحوا اصدقاء، خصوصاً في الاماكن الضيقة”. بعد قليل من الانطلاق تبدأ سيدة خشنة الصوت برواية ذكرياتها بين المرارة والضحك. لم افهم كل شيء. لكنها تقول انهم – الغستابو – احرقوا الغابة والمستنقع قرب اقامة هتلر للتخلص من البعوض الذي كان يحرمه النوم. ثم اكتشفوا ان الفوهرر لا ينام. ثم اكتشفوا انه كان ينام هانئاً على نقيق الضفادع، فأعادوا المستنقع وحملوا اليه كميات هائلة من الضفادع. وعاد ينام سعيداً فيما جيشه يدمِّر ويُدَمَّر، في ستالينغراد. وعندما سُئل ذات مساء قبل النوم، إذا كان من الصواب قتل ستالينغراد، فأجاب: إذا كان في ذلك حياة لألمانيا.

لم يشرح احد منطق الحروب مثله. سألت مرة الرئيس عبد العزيز بوتفليقة عن الحرب الأهلية الجزائرية، لأن الأرقام المطروحة تراوح ما بين 20 و250 ألفاً. قال متبرماً  كالعادة، يا فلان، ليس من شأن الدول اعطاء الأرقام الحقيقية، لا لشعوبها ولا لأعدائها! أتذكَّر هذا القول كلما سمعت رقماً عن حرب 1975. البعض يقول 130. البعض 150، البعض 200 ألف. أما الحقيقة فهي ان آلاف الناس تحوّلوا الى ارقام في المحفوظات، وصوَر على الجدران، أو صور الامهات الباكيات من باب الى باب طلباً لأرواح المرفأ. هل هؤلاء هم الحرب؟ غداً تسأم الامهات من تحجر الدولة، وتبقى الحرب في البيوت. ويعيش الفقراء في فقرهم. ويمنحهم الرجل الذي سجد على المسرح ذات يوم شاكراً للسيد المورِّث منحه حقوق المسيحيين جميعها، يمنحهم وسام الصمود وشهادة فقر حال. الحرب هي المنازل والبيوت والعائلات والاطفال والمدارس المغلقة في وجوههم والمناقيش التي لا يحصلون عليها، والمستشفيات التي فرغت خزائنها وأسرَّتها، والحواجز الطيارة والثابتة، والاطفال والامهات الذين ينامون دون عشاء ويصحون دون ترويقة. وهذه المرأة اللبنانية التي لم تجد في باريس إلا هذا الرصيف واستعارت صحّارة الكرتون من المشرد اليوغوسلافي الى ان تعثر على كرتونة لائقة ودائمة. لن تقول اسمها. كل شيء في الحرب يصبح سراً أو عيباً أو عاراً. يتحول الاشقاء والاصدقاء الى وشاة صغار وكتبة تقارير. يتعب الجنود وتنهار معنوياتهم، لكنهم لا يستطيعون الفرار خوفاً من الاعدام برصاص الرفاق، لا برصاص العدو. حاوِلْ دائماً خداع جنودك: اوسمة والقاب وخوذ لمّاعة.

كانت أهم دائرة عند نابوليون، دائرة البريد. يجب أن تصل الرسائل التي يبعث بها الجنود الى اهلهم واحبائهم مهما كان الثمن. إنها علاقتهم الوحيدة مع العزاء والحياة. واحياناً كانت تصل الرسائل بعد وصول الجثث، لكنها تصل في كل الاحوال. ويبكي الجنود في الخنادق. والبرد. والمطر. والخوف. وصوت المدافع البعيدة يقترب. والشاويش يشتم الكسالى الحالمين بامرأة وبطانية: قم يا وغد، هز قفاك قليلاً. ألم يبلغك أننا نخوض حرباً هنا؟

الحرب ليست شهداء المرفأ. الحرب مَن نجا. امهاتهم وأهلهم والذين ساروا في جنائزهم. الحرب ليست في الذين صاروا تحت المياه والتراب، بل الذين ظلوا فوقهما، يرون في اي بلد ولدوا وفي اي دولة يعيشون. دائماً كنت اخاف على بيروت من مشاهد برلين: المرأة التي تصادق جندياً سوفياتياً لأنه يؤمّن لها السجائر. زميله كان يؤمّن لها الحساء. واطول مسافة بين نقطتين كانت على المتحف. نصف دقيقة مثل نصف دهر. والقناص المختبىء لا يعرف انك كنت جاره بالأمس. لم يعد لقب الجار متداولاً. اصبح كنية مزعجة ومسؤولية إضافية. والكنية عند العرب هي الزعم. هي الكذب. وقد يسألونك على الحاجز: هل تعرف فلانا؟ والجواب خيارك، إما انك تعرفه فتقتل، او لا تعرفه فيقتل. هذا (تقريباً) ما يميز الحرب الأهلية عن الحرب في المطلق. سفير القذافي في بيروت كان يدفع ثمناً للشهداء وثمناً للعملاء. ليس مهماً انهم من بلد واحد.لا وقت للتفاصيل. والقضية في الانتظار.

إنها الحرب. جميع الجبهات فائرة. القضاء والافران والاطباء والصحف والمدارس والجوع والبطالة والليرة. أنت لا تعرف ما هي العشر فنكات. أنت لم تعرف الحرب. 4,3 ملايين عسكري الماني قتلوا خلف هتلر في الطريق الى انتصار الرايش الثالث. لم ينتهِ الاحصاء إلا العام 2005. لا احد يعرف اسم احد منهم. جميعنا نعرف اسماء هتلر وستالين وهيروهيتو وترومان. كيف للذاكرة ان تحفظ 80 مليون اسم؟ مسكينة بيروت. ممنوعة حتى من الأسماء.