اخبار عاجلة
الرئيسية / home slide / لبنان والحكم بعقلية الغنيمة: مثال آخر للفساد الذي يهدم الدولة

لبنان والحكم بعقلية الغنيمة: مثال آخر للفساد الذي يهدم الدولة

 لطفي العبيدي
القدس العربي
13082021

في لبنان، منظومة الفساد أكبر من الدولة المرتبكة، ووسط استقطاب حاد، يمر البلد بأزمة سياسية واقتصادية هي الأسوأ منذ انتهاء الحرب الأهلية. والطبقة السياسية بكامل مكوناتها تتصارع في ما بينها، وقد فشلت في القيام بإصلاحات ضرورية ينتظرها الشعب اللبناني منذ مدة. واليوم، يضع المجتمع الدولي شرطا لحصول البلاد على دعم مالي يساعدها على الخروج من دوامة الانهيار الاقتصادي.
وسط عدم وجود حلول مرتقبة، تزداد حدة الأزمة السياسية والاقتصادية والمعيشية في لبنان، ويرى مراقبون أنه كل يوم تقريبا، يصدر تحذير من قطاع ما، المستشفيات تحذر من نفاد المحروقات اللازمة لتشغيل المولدات، وسط انقطاع التيار الكهربائي ومخاطره على حياة المرضى. الصيدليات تنفذ إضرابات بسبب انقطاع الأدوية، المتاجر قد تضطر لإفراغ براداتها لعدم توفر الكهرباء والوقود. ولأسباب تعود في جزء منها إلى مبادرة تجار وأصحاب المحطات إلى تخزين الوقود بانتظار رفع الأسعار، إضافة إلى تنامي التهريب إلى سوريا المجاورة. يحدث ذلك في غياب توافق سياسي بشأن المبادرات الفعّالة في مجال السياسات، مقابل وجود توافق سياسي حول حماية نظام اقتصادي مفلس، أفاد أعدادا قليلة من السياسيين ورجال الأعمال لفترة طويلة، وهؤلاء يتحملون مسؤولية ما آلت إليه الأوضاع في البلاد. فقد تقاسموا القطاعَين العام والخاص في ما بينهم، وأنشأوا منظومة تتيح لهم اقتطاع إيرادات مالية من أي نشاط اقتصادي تقريبا.
لبنان غارق في انهيار اقتصادي قد يضعه ضمن أسوأ عشر أزمات عالمية، وربما أحد أشد ثلاث أزمات، على مستوى العالم منذ منتصف القرن التاسع عشر، حسب مؤشرات البنك الدولي، والمؤسسات المالية المانحة. وفي مواجهة هذه التحديات الهائلة، يهدّد التقاعس المستمر في تنفيذ السياسات الإنقاذية، في غياب سلطة تنفيذية تقوم بوظائفها كاملة، الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية المتردية أصلاً، والسلام الاجتماعي الهش. ولا تلوح في الأفق أي نقطة تحوّل واضحة في ظل الشلل السياسي. وليس مفاجئا أن الطبقة الحاكمة في البلاد لم تبدِ استعدادا لتلبية شروط الإصلاح، خوفا من خسارة امتيازاتها، فالفساد السياسي الذي دمّر اقتصاد البلد، وراح ضحيته المواطن، لم ينتعش في مناخاته سوى قلّة من الأثرياء والساسة الانتهازيين، من الذين فضّلوا مصالحهم الضيقة والفئوية بعناوينها الطائفية والأهلية على حساب الصالح العام. اتفاق الطائف الذي وُقِّع في عام 1989 ليضع حدّاً للحرب الأهلية اللبنانية، أنتج نظاما طائفيا قوّض عملية الحوكمة، ومنح هذا النظام المسؤولين السياسيين الطائفيين، وسائل شتى لتكديس الثروات على حساب السواد الأعظم من الشعب. والقوائم التي نشرتها مجلّتا «فوربس» و «أرابيان بيزنس» بأسماء أصحاب المليارات، تكشف عن استحواذ نسبة 0.1 % من الحسابات المصرفية على 20% من مجموع الودائع. وحسب المجلتَين المذكورتين، شكّلت ثروات أصحاب المليارات، في المعدّل 30% من مجموع الدخل الوطني في لبنان بين عامي 1990 و2016، و23% من المجموع بين عامي 2010 و2017. 10% من السكّان يمتلكون حوالي 70% من مجموع الثروات في البلاد، وتستحوذ نسبة 1% على نحو 45% من الثروات، فيما لم يتبقَّ لشريحة الـ50% الأكثر فقراً سوى أقل من 5%. مستويات شديدة من الفقر والفساد، وغياب أدنى شروط العدالة الاجتماعية، فضلاً عن تداعي الطبقة الوسطى. واللامساواة الهائلة في المداخيل والثروات، تستمر بسبب فساد الاقتصاد السياسي، وهذا الوضع كان تحديداً المحرّك الأساسي لاحتجاجات عام 2019. ولمظاهر الغضب المستمرة في ساحات لبنان المختلفة. وحين يجتمع فساد منظومة الحكم مع سياسات الخنق المالي والتبعية الاقتصادية، من الطبيعي أن يتدهور سعر العملة الوطنية، ويتفاقم الكساد والتضخّم، وتزداد الأوضاع المعيشية تأزّما. ويخشى مراقبون من حدوث انهيار شامل في لبنان بعد التدهور المريع في العملة المحلية ما قد يدخل البلاد في نفق مظلم.

لبنان غارق في انهيار اقتصادي قد يضعه ضمن أسوأ عشر أزمات عالمية، على مستوى العالم منذ منتصف القرن التاسع عشر

لبنان تحت وطأة أزمة اقتصادية هي الأسوأ في تاريخه، حيث تتزامن مع انسداد سياسي تسبب في عدم تشكيل حكومة مستقرة حتى اليوم، ما يعرقل الكثير من الخدمات المقدمة للمواطنين. ويدفع بالبلاد إلى شفير الانهيار التام. ومعايير فرض العقوبات على المسؤولين اللبنانيين، الذين أوصلوا البلاد إلى وضعها الحالي، ستكون على الأرجح الفساد، وعرقلة جهود تشكيل الحكومة، وسوء الإدارة المالية، وانتهاكات حقوق الإنسان. فالنظام السياسي الطائفي الذي وطّد أركان ما سمّي بالديمقراطية التوافقية الإشكالية في البلاد، فاقم على نحو متواصل التفاوت الشديد في الثروات والمداخيل، وخلق الأزمات الاقتصادية والسياسية، التي ازدادت تدهورا إثر حادثة انفجار مرفأ بيروت، التي كشفت عمق الفساد وسوء التسيير وغياب الدولة، فما معنى أن تُمثَّل كل طائفة من طوائف البلاد في الحكومة وسائر مؤسسات الدولة على نحو حتمي، وأن تؤثّر في السياسات العامة وفق أجندات الابتزاز والانتهازية. وفي الأخير يوصلون البلد إلى حافة الانهيار وإلى ما يشبه الدولة الفاشلة. الأزمة المالية والاقتصادية في لبنان التي تُختصَر أسبابها الجوهرية في الفساد السياسي والإداري، على نحو تسيير البلد وفق عقلية تقسيم النفوذ بذهنية طائفية ومذهبية ضيقة، لا تعير اهتماما لمصالح الشعب وأولويات الدولة في شتّى المجالات، حان الأوان أن تنتهي بإرادة شعبية، ولا بديل عن تفكيك المنظومة الطائفية التي تتقاسم السلطة سبيلا للنفوذ وتحقيق المصالح وعقد الصفقات ونهب المال العام، فالعملية الإصلاحية الشاملة تتطلب تغييراً سياسياً جذرياً، وإعادة صياغة نموذج اقتصادي جديد يتّجه نحو دولة الرعاية الاجتماعية المركزية. ومن الضروري تكريس مؤسسات رقابية حقيقية لتحجيم الفساد ومحاسبة مرتكبيه، وإزاحتهم من دائرة الفعل السياسي والإداري الموروث، والعمل على تطوير ذهنية العمل السياسي، وإخراجه من دائرة المصالح الفئوية، ومنطق النهب والسرقة، وجعله خاضعا للرقابة ومشروطا بالكفاءة والمسؤولية والروح الوطنية، وبعيدا عن الولاء والمحاصصة وأشكال الاستعلاء على القانون وإحلال الهويات والوساطة.
كاتب تونسي