عبد معروف
القدس العربي
11042021
صناعة القصب، حرفة يدوية فنية استخدمت بدايةً للحاجات الزراعية، ثم تطور استخدامها مع تطور الحاجة لتُصنع منها السلال والكراسي والحصر والأقفاص والقبعات الصيفية وبعض الأدوات الموسيقية والديكورات المنزلية، وهي مهنة لا تزال مطلوبة حتّى اليوم نتيجة إقبال السياح على شراء منتجات القصب كالتذكارات والهدايا.
العديد من المهن والحرف الشعبية القديمة التي ما زالت تمارس حتى اليوم، أو التي اندثرت وباتت جزءاً من التراث والفلكلور الشعبي، تعدّ جسرًا لربط الماضي العريق بالواقع المعاصر. فهي حرف ومهن تجسد أصالة الآباء والأجداد، وتذكرنا بتاريخهم المجيد، وبنتاجهم الإبداعي الإنساني العريق المتمثل في الصناعات اليدوية والحرف التقليدية، في وقت كان يفتقر المجتمع فيه إلى الوسائل العصرية الحديثة.
وصناعة القصب في لبنان حرفة يدوية شعبية موروثة ونادرة، تعود إلى العصور القديمة، لكنها اليوم أصبحت على أبواب الانقراض نظرا لتطور الصناعات البلاستيكية بدلا عنها. وارتبطت هذه الصناعة الحرفية بنمط حياة تقليدية كانت سائدة في القرى والمدن اللبنانية خلال العقود الماضية، إلا أنها اليوم أصبحت جزءًا من الصناعة التقليدية تربط بين الماضي والحاضر، وفيها من الإبداع بقدر ما فيها من الصعوبة، فهي تحتاج إلى صبر وتحمل جروح نسلات القصب.
وتعتبر صناعة القصب فنا حقيقيا ارتبط منذ القدم بالحياة اللبنانية الريفية وتأصل مع الوقت، لا سيما بعد تحول السلال رفيقة الفلاح اللبناني في المواسم.
لا تتطلب هذه الحرفة سوى القصب المنقوع بالمياه حتى يلوى ولا يتقصف، ومهارة يدوية. تنتشرهذه الحرفة في عدة مناطق لبنانية: عمشيت، كواشرا، فريديس، زغرتا وكفريا وصيدا.
دخلت صناعة القصب لبنان من بريطانيا عندما استعمرت البلاد الآسيوية وخصوصا التي كان ينبت فيها قصب الخيزران، أخذت الدولة البريطانية القصب وأدخلته في صناعاتها واستعملته في البناء كسلالم متنقلة ومن ثم كقطع وأجزاء صغيرة لسد فتحات الجدران الأسمنتية عوضا عن الخرضوات (المسامير والبراغي وما إلى ذلك) والتي أثبتت قوتها ومتانتها لعقود مديدة، فانتقلت من هذه الصناعة إلى غيرها من صنع الكراسي وأدوات أخرى أدخلتها إلى فلسطين، ومنها أخذها السوريون واللبنانيون ودول الجوار . الحرفي اللبناني عمل على تطوير هذه المهنة بإدخال أشكال وأحجام مختلفة، ويبدع بأنامله السحرية لتغدو قصبة الخيزران بين يديه أشكالا حلزونية وأخرى كسعف النخيل ومهواة تحملها المرأة في يدها وكانت جزءا من مقعد للجلوس يعلوه شكل المروحة الهوائية تلك.
مهنة نادرة
قلة هم الذين يتمسكون بحرفة الآباء والأجداد، حرفة تذكرهم بتاريخهم العريق، إنما نديم صليبا وهو من الحرفيين في مهنة صناعة القصب في مدينة جبيل شمال بيروت، ما زال متمسكا بهذه المهنة لأنها مصدر عيشه، ويقول «صناعة القصب مهنة نادرة بعد أن كانت قبل سنوات مهنة رائجة ومعروفة ومصدر رزق للكثير من اللبنانيين». وهي اليوم مصدر رزق للكثير من اللبنانيين في جبيل وصيدا والدامور وعمشيت وزغرتا وغيرها، ومنهم من توارث هذه المهنة من آبائهم وأجدادهم.
وأعرب صليبا لـ»القدس العربي» عن أسفه لأن صناعة القصب أصبحت من التراثيات القديمة وعلى باب الانقراض نظراً لوجود البلاستيك بديلاً عنها، لافتا إلى أن الحرفيين اللبنانيين ورثوها من زمن كانوا يفتقرون فيه إلى الوسائل العصرية، وهي اليوم تصارع من أجل البقاء.
وحول طرق صناعة الكراسي والسلال والحصر وغيرها من القصب يقول صليبا، «يتم جمع القصب من ضفاف الأنهار ، ثم نقعه بالماء فيصبح طرياً وجاهزاً لتدوير المصنوعات المشبكة من أحجام مختلفة تصلح للاستخدام. وبعد شبك القاعدة أو القعر من قصب عريض مبلول ومطوّع وجدلها بنسلات أخرى مفسخة من القصب الطويل».
تقوم هذه الحرفة على قصب منقوع بالمياه حتى يلوى فلا يتقصّف، وعلى مهارة يدوية بِجدْل أوراق النخيل، وعقده تسع أوراق جدائل يكبرها الحرفي قدر ما يشاء، ثم يحوّلها إلى دائرة ويخيطها بتؤدة من القاعدة حتى الجوانب حتى تتّخذ الشكل المطلوب: سلّة أم قبّعة أم حقيبة للبحر.
صناعة السلال أو حياكة السلال هي نسج يدوي أو حياكة لمادة طيعة لتكون على شكل سلة أو زهرية أو أشكال أخرى مقاربة، وهي من الصناعات الشعبية المتوارثة عبر الأجيال. وتنتشر هذه الصناعات في المناطق التي تتوفر فيها المواد الخام كالصفصاف والقصب والسنديان وغيرها. والفنانون المتخصصون في صنع السلال عادة ما يشار إليهم بصانعي السلال أو ناسجي السلال.
وحول طريقة حياكة السلة يقول صليبا، «يبدأ الحرفي أولاً في حياكة قعر السلة على شكل نجوم ثم يصنع الجدائل على الجوانب وأخيراً يُنهي عمله بتثبيت المسكات».
ويضيف، «يجري بمهارة شبك الخارج الدائري الموصول من خلال القصب العمودي المتفرع من القاعدة والموزع بتباعد متساوٍ، وبعد الانتهاء من الارتفاع والاتساع المطلوبين، تشبك وتجدل المسكة».
خطوات عديدة تحتاج إلى كثير من الجهد والدقة ليحصل الحرفي على الشكل النهائي المرغوب فيه. ويبدأ سعر السلة الواحدة من دولارين أمريكيين حسب الحجم، ويستغرق صنعها مدة لا تتجاوز النصف ساعة.
مصدر عيش
جورج ابي منصور من قرية سرعل قضاء زغرتا شمال لبنان، ما زال متعلقا بحرفة صناعة الكراسي والحصر والقبعات الصيفية، وحياكة السلال من القصب وهي مصدر عيشه، يقول: «عمري 66 عاما، كنت أساعد أبي من وقتا كان عمري 13 سنة بالشغل، واليوم أتابع عمل والدي وأصبحت لدينا مهنة حتى من أجل العيش» وأضاف باللكنة اللبنانية، «عندي 6 ولاد وكلن تجوزو وعملو بيوت. كنت أنا وزوجتي نتعب ونشتغل كل يوم تنعلم ولادنا بأحسن مدارس وجامعات، وكلو من شغل القصب.. أنا بشتغل وبتعب كرمال ما عوز حدا».
تحتاج مهنة صناعة القصب، إلى فن وإبداع وتركيز، لكنها من المهن الصعبة والمتعبة، لذلك، أبو داني وهو من أشهر الحرفيين في قرية الفريديس قرب زغرتا، شدته الحرفة بعدما كان أجداده يقتاتون الكثير من المال حيث كانت آنذاك مهنة مهمة جداً نظراً لاستعمال سلال القصب في البساتين والمزارع. كان والده قديماً لا يفرغ من طلبات الزبائن. وهو اليوم يحافظ على المهنة ويشتغل فيها منذ 45 سنة دون ملل: ويقول «أنهض من نومي حوالي الساعة الرابعة كل صباح، وخلال ساعات النهار أصنع عددا من السلال والكراسي والحصر، طبعا عندما كنت شابا كنت أعمل بشكل أكثر، لكن اليوم تراجع عملي كثيرا ولم يعد في مقدوري أن أصنع أكثر من 4 سلال في اليوم الواحد».
ولفت أبو داني إلى أن الطلب تراجع على المصنوعات القصبية وأصبحت تباع باعتبارها من التراثيات والكماليات، وتابع: «المصلحة راحت، إنقرضت» مع دمعة في عينيه، وأردف «كل الفريديس كانت تشتغل وكل البضاعة تروح، كان الإنتاج وفيرا والطلب على المصنوعات القصبية كبيرا هيدا القصب صرلو من عمر جدي، جدود جدودنا».
ويختم أبو داني قوله لـ»القدس العربي» مهنة صناعة القصب، فيها الكثير من المخاطر، وللأسف لم يعد ما ينتج عنها يكفي لحياة كريمة أمام الانهيار المعيشي وغلاء الأسعار في لبنان».
يصنع الحرفيون المصنوعات القصبية عبر تقنية اللف المستمر، باستخدام ألياف ومجموعة واسعة من المواد، تنتج تصاميم هندسية جميلة وجذابة، بما في ذلك القصب والقش والخيزران والخيوط، فضلا عن استخدام الأصباغ الطبيعية لتلوين التصاميم على المصنوعات.
وعلى الرغم من أن الأصباغ الطبيعية لا تزال تستخدم في السلال التقليدية، فإن معظم الحرفيين يستخدمون أعشابا مصبوغة كيميائياً لصنع سلال ذات ألوان زاهية.
ويستخدم معظم النساجين أيضا السكاكين والخرامات لقطع الألياف، وإبر نسيج حادة لصنع سلال ملفوفة، وفي معظم السلال يستخدم الحرفيون أعشابا ملونة مختلفة لخلق شكل زخرفي جميل.
أنواع القصب
وعادة ما ينسج القصب الأكثر صلابة في شكل ضفيرة بسيطة، ويحصد المزارعون القصب ويقشرونه لصنع شرائح يمكن استخدامها للنسيج، ثم تنسج الشرائح المسطحة باستخدام تقنية الضفر البسيطة، التي تتضمن شرائح تمرر من الألياف تحت بعضها البعض في زاوية ثابتة لإنتاج شكل محدد.
تستعمل نبتة «الحلفا» وهي من أنواع القصب التي تنمو على ضفاف نهر العاصي قرب مدينة الهرمل شمال شرق لبنان في صناعة الصواني والسجاد، حيث تقطع هذه النبتة ويتم تحويلها إلى خيوط تصبغ وتجفف وتصبح مجموعة من الجدائل الملونة التي تستخدم لصناعة الصواني والأطباق الواسعة، كما يستخدمها بعض الحرفيين في الهرمل لخياطة سجادة الصلاة.
ومن بين مصنوعات القصب، صناعة الحصير التي بدأت تتلاشى منذ عقود أمام زحف السجاد وصناعات النسيج والمفروشات، فالحصير في الماضي كان سيد المفروشات، وكان يتم تصنيعه على شكل مفارش مستطيلة الشكل تفرش على أرضيات البيوت والمساجد وغيرها.
بعد أن يكون تصنيعها قد استغرق قرابة الأسبوع لتغدو جاهزة لفرشها في أرض البيت في الماضي كانت تزين بفرش الحصير المصنوع من القصب حيث يعد من أفخم المفارش. أما الوقت الحاضر فقد تغلب السيراميك والبلاط الفاخر على الحصير المصنوع من القصب وأصبحت هذه الحرفة محدودة على الزبائن الذين يبحثون فقط عن التراث القديم.
وقد عرفت هذه الصناعة تراجعا ملحوظا نتيجة عزوف المستهلك عن اقتنائها بالإضافة إلى منافسة الخيوط الاصطناعية البلاستيكية التي زادت من ضعف القدرة الشرائية للحصير التقليدي.
مهن كثيرة مهددة اليوم بالانقراض وعليه، تنتظر مهنة تصنيع القصب الوقت لكي تحدد نهايتها، فإما أن تندثر ككثير من المهن اليدوية والحرفية، وإما أن تحافظ على طابعها التراثي من دون أن تشكّل فرصة عمل حقيقية لليد العاملة.