الرئيسية / مقالات / لا تلوث لا عتم… يابا لالا

لا تلوث لا عتم… يابا لالا

روى تيللي سافالاس (كوجاك) أنه يوم كان فتى فقيراً في نيويورك، كان يذهب جائعاً إلى المخازن الكبرى ليخطف، في خوف، تفاحة من هنا، أو برتقالة من هناك. وكان يراقبه، من غير أن يدري، سارق محترف، فاقترب منه مرة وقال: يا فتى سوف يفتضح أمرك في سرعة. وكي لا “يراك” احد عليك أن تملأ عربة كاملة وتخرج بها وأنت تصفَّر لحناً بكل لا مبالاة. ولن ينتبه أحد الى انك حرامي.

تلك هي القاعدة الذهبية: المجرم الكبير لا يُرى. يوم اغتيل جون كينيدي في دالاس العام 1963 كانت الكاميرا هناك. قتل في سيارة مكشوفة. ثم التقطت الكاميرا مباشرة مقتل قاتله، هارفي أوزوالد، فيما تقوده الشرطة الى الاعتقال. وقد صور عن الجريمة مئات الافلام واصبحت “مرئية” أكثر من أي جريمة أخرى في التاريخ. وإلى اليوم، لم يُعرف من هو المجرم الحقيقي.

يطمئن السارق الكبير الى أن جميع الذين يرونه لا يرونه. كانوا ينظرون ويرون، أيام كان تفاحة من هنا وتفاحة من هناك. أما وقد خرج بالسلة كلها كما نصح العراب، فلن يجرؤ أحد على طرح الأسئلة. إنها للصغار فقط.

ولكن ماذا عن الذي تراه؟ هذه مشكلتك. لن يصدقك أحد. والشهود والمحلفون جاهزون للقسم على افترائك على أشراف القوم! قرأنا صغاراً في متعة لا تنسى حتى الآن، روايات “روكامبول”، ترجمة طانيوس عبده، ايضاً صاحب القواميس. وفي “روكامبول” وردت للمرة الأولى الجرائم تحت عنوان “الحوادث” أو “المتفرقات”. وما نقرأه هذه الايام على درج المحاكم وفي ادراج القضاء، لن يتجاوز باب المتفرقات. الايطاليون وجدوا لها عنواناً اكثر جاذبية لقراء الملفات القضائية: “اليوميات السوداء”. Cronaca Nera. ليس عن عبث لا تصل المحاكمات الايطالية الى شيء، ويتحول كل شيء الى سينما. ودولتشي فيتا. لذلك، عندما انحشرنا مرة بالكهرباء، طرحنا الصوت على ايطاليا: بريغو!

ظرفاء، الايطاليون،على الأقل. وأصحاب “خفة” مثل هوديني، لا يمكن ضبطهم. أما اسطول بواخر قبالة الشط، ومداخن ثابتة، ومداخن متحركة، فتحتَ أي قبعة يمكن اخفاؤها؟ كنا قد تأملنا ذات يوم بشركائنا الاتراك. فقد ذهبت بعثة تلفزيونية الى بلاد الاناضول وفاطمة غول، وعادت بريبورتاج بالالوان، يحذرنا من أن أن فرحتنا للتجديد للنعمة التركية، محدودة. فقد ضاق السيد والسيدة الغول وشركاؤهما، بتدللنا. Now or never، كما غنى ألفيس برسلي.

قلنا في أنفسنا، أو بالاحرى قال السذج في أنفسهم، فُرِجت. سوف يريحنا الاتراك من هذا الكابوس البرمائي اللزج. كانوا يمزحون، الاتراك، انهم هنا، مثل ميرابو، بإرادة الشعب، ولن يخرجوا إلاّ على أسنّة الحراب.

طرح مدرس على تلاميذه السؤال: من قبل، البيضة أم الدجاجة؟ فأجاب أحد الاشقياء الصغار: لا هذه ولا تلك! الديك! وسوف نفترض أن البواخر التركية أطهر من الملائكة، ولكن ما دام كل لبناني يظن فيها الظنون، فلماذا لا تعاد الى بحر مرمرة؟ لمصلحة مَن الاصرار على الشبهات، ما دام اللبناني أصبح يفضل العتم على وقاحة الاسطول الجاثم على الصدور؟

من شرفة الفندق في الرياض، أشاهد كل يوم، 24/24، 7/7، عمالاً يقيمون طريقاً معلقاً. هذه طريقة اخترعها الكوريون الجنوبيون. ثلاث نوبات في اليوم. أي أن معمل الكهرباء الذي يقال إنه يستغرق سنة ونصف سنة، يكون جاهزاً في نصف سنة.

يعاتبني أصدقاء عرب كثيرون بسبب ما يقولون إنها الصورة التي نرسمها عن لبنان. وبناء على رغبتهم وعواطفهم الصادقة وحرصهم على هذا البلد اللقيط الذي يتقاذفه الجميع، قررنا أن نلبي نداءهم: ليس صحيحاً أن بيروت مدينة العتم، فهي لا تزال “عاصمة الاشعاع والنور”. وليس صحيحاً أن الليطاني أوسع مجرور مفتوح في العالم. وما ترونه من جحيم السير، هو “فوتو شوب”. وليس صحيحاً أننا اكتشفنا فجأة وجود 1,5 مليون نازح، لكن كان لا بد من التأكد. وما يشاع عن ازمات اقتصادية، ترويج معاد.

عندما أعبر فرنسا بالقطار، أرى جمالاً آخر قد اضيف الى الطبيعة والنظافة والصحة: مولدات الكهرباء الهوائية. وكلها في السهول. ونحن قادرون، من خلال جبالنا، أن نضيء بالطاقة الهوائية ثلاثة ارباع لبنان. والربع الباقي بالطاقة الشمسية. وإلى الجحيم مع اسطول النهب التركي وما يلحق به من “فيول” فاجر وملوث.

ماذا؟ ليس بهذه البساطة؟ بلى. بهذه البساطة: معمل كهرباء مثل زحلة، ومحرق قمامة مثل صيدا، وينتهي هذا الفجور. وتزول هذه الصور القبيحة عن أحد أجمل بلدان الأرض غارقاً في العتم والزبالة والبطالة، وتجنب المساعدة الدولية العاجلة لأن لا مكان فيها للسماسرة الفجعانين.

نشبه تماماً قصة رواها الكاتب انيس منصور عن غربان طوكيو. فقد هاجمت طيور القاق عاصمة اليابان باعداد هائلة، وراحت تخطف الطعام وتقرض الاسلاك المصنوعة من الانسجة الزجاجية. كيف تتخلص من 50 الف غراب؟ القتل ممنوع. والتسميم سوف يثير جمعية الرفق بالطيور. ولم يبق سوى الفخاخ والمصائد التي نصبوها بالآلاف على السطوح. لكن الفراغ الذي حصل أدى الى مجيء غربان الريف الى المدينة. قاق قاق.

الحرب على الفساد فتحت أبواب الجحيم. مرافىء، مرافق، سفن، طيارات، براً – بحراً – جواً. كل يوم قضية، قضيتان، وقريباً سوف نتوقف عن العد. لذلك، سماها الايطاليون Cronaca Nera. يوميات سوداء. غربان سود. ولها مداخن.

قام النظام اللبناني على التواطؤ وتبادل المنافع. وتوافق اللبنانيون على ان الدولة مجرد بزنس من البزانس شبه الشرعية. الاوادم مهابيل، أو خارجون على القانون. يروي الاستاذ غسان العياش، نائب حاكم البنك المركزي، أيام الدكتور ادمون نعيم، أن المثل الأعلى عند كبير الحقوقيين(1) كان المصارع ادمون الزعني. وكان مثله عريض الكتفين، هرقلي القامة. وكان يحرص على دفع الفاسدين عن البنك بالقوة الجسدية. لا وسيلة أخرى للاقناع والدفاع. لذلك أرسل اليه أحد الوزراء مرة، فرقة من الدرك تباطحه وتحضره. تلك كانت الوسيلة الوحيدة للحصول على توقيع ادمون نعيم على ما لا يقبل التوقيع عليه.

كما ان لبنان لم يعرف في المصارعة الحرة سوى ادمون زعني واحد، فهو لم يعرف في الحرص الاسطوري على المال العام، سوى ادمون نعيم واحد. مسألة المال العام كان ضعفها دائماً، “الجو العام”. تقبّل الناس لثقافة الرشوة والفساد والسرقة والخوة على انها جزء طبيعي من النظام، مصرّح به دون اعلان. والنظيف كان يثير الشفقة – لا الاعجاب.

تعودنا ألا نأمل كثيراً. الفرق بين الزمن والزمان، كان يقول عباس محمود العقاد، أن الأول مدة محدودة والثاني بلا حدود. نحن، من زمان فقدنا الأمل والتفاؤل. لكننا نجد بعض العزاء أحياناً في فرش النيات الطيبة على دروبنا. المشكلة أننا على كل الدروب تبان البواخر التركية.

(1) خلف اسوار مصرف لبنان – الدكتور غسان عياش.

اضف رد