صبحي حديدي
القدس العربي
21062021
تقصد الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون المشاركة الشخصية المباشرة في احتفالات فرنسا بالذكرى الـ400 لولادة أديبها الشهير جان دو لافونتين (1621 – 1695) الشاعر ومؤلف المجموعة الفرنسية الأشهر في الخرافة، أو قصة الحيوان والطير والحشرة والنبات لمَن يشاء اصطلاحاً أقرب توصيفاً إلى المحتوى. وكان القصد الرئاسي ينطوي، من حيث الشكل والنيّة المعلَنة، إطلاق سنة في فرنسا مكرّسة للقراءة، ولهذا فقد زار قصر شاتو تيري مسقط رأس لافونتين، صحبة الممثل المسرحي والسينمائي الشهير فابريس لوشيني، واشترك معه في حوار مفتوح حول لافونتين ومفهوم الخرافة ودلالاتها الأدبية والسياسية والتاريخية، كما استمع إلى لوشيني يعلّق على الخرافات المفضلة لديه.
وراء هذا المعلَن كان ماكرون يتوخى توظيف لافونتين في طراز، غير خافٍ البتة، من أنشطة حملته الشخصية لانتخابات فرنسا الرئاسية التي ستجري جولتها الأولى يوم 23 نيسان (أبريل) 2022 لأسباب لا يغيب عنها، أوّلاً، حرص الرئيس الفرنسي على استعراض عضلاته الثقافية والفكرية كلما سنحت سانحة لهذه الرياضة؛ ولا تخلو، ثانياً، من استغلال شخصية لافونتين لتمرير هذه أو تلك من الرسائل متعددة الأغراض، السياسية والاجتماعية والاقتصادية والأخلاقية. ذلك لأنّ لافونتين ليس أديب الخرافة الأشهر في هذا البلد فحسب، بل هو (في مقام ليس أقلّ أهمية) صاحب الأقاصيص والحكايا الأكثر اقتباساً بصدد الساسة والسياسة؛ وليس على صعيد الخصوم أو الحلفاء وحدهم، حين يدخلون في اشتباك من أيّ نوع، بل كذلك بين زعيم اليمين الفرنسي المتطرف جان – ماري لوبين وابنته مارين لوبين حين تجاوزت حدودها معه، فذكّرها بخرافة لافونتين عن السباق بين الأرنب والسلحفاة.
وبعيداً عن الساسة والسياسيين في فرنسا، ليس من الإنصاف الحديث عن لافونتين من دون وقفة موجزة عند أبعاده العربية؛ على صعيد الأصول العربية لخرافاته، عند ابن المقفع و»كليلة ودمنة» خصوصاً، وكذلك ترجماته إلى اللغة العربية. وليس هنا المقام الملائم للخوض في تأثيرات بيدبا الفيلسوف (ابن المقفع، بالتالي)، وقد يكون كافياً أنّ لافونتين أقرّ بها، مثلما أقرّ بمنابع حكاياته لدى الإغريقي إيسوب.
في الترجمة، الأرجح أنّ محمد عثمان جلال هو صاحب أوّل نسخة عربية من خرافات لافونتين ظهرت سنة 1906 تحت عنوان «العيون اليواقظ في الأمثال والمواعظ»؛ وقد اختار المترجم 200 حكاية، ونظمها شعراً موزوناً مقفى. الترجمة الثانية جاءت من أمير الشعراء أحمد شوقي الذي قرأ لافونتين أثناء إيفاده إلى مدينة مونبيلييه الفرنسية سنة 1888؛ واتخذت هيئة شعر موزون مقفى، بالطبع، مثاله المقطع الأول من حكاية الثعلب والديك: «برز الثعلب يوماً/ في شِعار الواعِظينا/ فمشى في الأرضِ يهذي/ ويسبّ الماكِرينا».
للحملات الانتخابية مقتضياتها العجيبة التي تتيح للرئيس الفرنسي أن ينوس على هواه بين يمين مقنّع وليبرالية مطعّمة، وأن يشخّص تأزّم الإسلام، ثمّ يقرأ على الملأ خرافات لافونتين التي يمكن، بسهولة مذهلة في الواقع، أن تضعه هو شخصياً موضع سخرية ومسخرة
هنالك ترجمات أخرى من إبراهيم العرب، في مصر، سنة 1911 والأب نقولا أبو هنا اللبناني، سنة 1934؛ وفي العصور الحديثة أصدر السوري سامي قباوة ترجمة للخرافات، سنة 2017. وأمّا الجديرة بإشارة خاصة هنا فإنها ترجمة جبرا إبراهيم جبرا، التي صدرت سنة 1987 في بغداد، بعنوان «حكايات من لافونتين» واحتوت على 55 حكاية؛ وفي مقدمته يؤكد جبرا على أنّ إيسوب استقى الكثير من الآداب الرفدينية خلال إقامته في بابل أيام نبوخذ نصّر. وقد اختار جبرا وسيط النثر، كما في مستهلّ حكاية الموت والحطاب: «كان ما كان/ كان حطاب عجوز/ ظهره انحنى بوقر من الأحطاب والسنين/ يكدّ في الدرب مهزوز الخطى…».
وبالعودة إلى ماكرون، كان لافتاً أنّ الرئيس الفرنسي انبرى للدفاع عن لافونتين بصدد الاتهامات التي تُساق ضدّه عادة من جانب التيارات النسوية، لجهة مواقفه من المرأة وذكوريته المفرطة؛ أو الاعتراضات الدينية على رجل أشبع الكنيسة ورجال الدين سخرية وتهكماً ونقداً، ولم يوفّر هذه المؤسسة من تمثيلات لاذعة لاسعة على ألسنة الحيوان؛ أو، ثالثاً، جسارته في التعريض بالمؤسسة المَلَكية وشخص الملك، فضلاً عن بطانته ووزرائه وحاشيته. وأعلن ماكرون مناهضته ميول التحول إلى قضاة يحاكمون الماضي بروحية الحاضر المعاصر، وبالتالي تجاهل حقيقة أنّ للتاريخ مساراته، معتبراً أنه إذا كان من حسن حظنا أن نتقدّم ونتطور، فمن سوء الحظ أن نتجاهل الاحتكاك بعقول عظيمة أمثال لافونتين وديدرو وفولتير، امتلكوا بدورهم «روح العصر» في أزمانهم.
وهكذا، للحملات الانتخابية مقتضياتها العجيبة التي تتيح للرئيس الفرنسي أن ينوس على هواه بين يمين مقنّع وليبرالية مطعّمة، وأن يشخّص تأزّم الإسلام ثمّ يلطّف التشخيص صاغراً، ولا يتردد في مساندة وزيرة التعليم العالي في حكومته حين تتشكى من هيمنة «الإسلامو – يسار» على الأبحاث الجامعية؛ ثمّ يقرأ على الملأ خرافات لافونتين التي يمكن، بسهولة مذهلة في الواقع، أن تضعه هو شخصياً موضع سخرية ومسخرة، ليس أقلّها حكاية بيع جلد الدبّ قبل اصطياده، التي ساقها لوشيني نفسه أمام قصر شاتو تيري. وكيف لا يلجأ ماكرون إلى زجّ لافونتين، مبكراً، في معمعة الحملة الانتخابية الرئاسية إذا كان الأديب الفرنسي موضع زجّ واسع النطاق، لتوّه؛ في انتظار جرّ زملائه الثلاثة ضمن الرباعي الذهبي: راسين وبوالو وموليير. وتلك تكتيكات في بيع جلود الدببة أخذت تتجلى أكثر فأكثر، بين الخصوم والحلفاء والفرقاء هنا أيضاً، وليس بصدد الرئاسيات المقبلة وحدها، بل كذلك في سياق انتخابات… مجالس المناطق!