01-02-2023 | 22:29 المصدر: باريس- النهار العربي
مارسيل بروست
تنهمك المحافل الثقافية والأدبية العربية الآن في التداول حول الترشيحات للجوائز المرصودة لدى مؤسسات ومنتديات للرواية والقصة القصيرة والعلوم الإنسانية، وتشرع لجانُ تحكيمها، المعلَنة منها، والمحجوبة، في إصدار القائمات الأولى بأسماء الترشيحات والأعمال المؤهّلة في مرحلة أولى.
في البلدان المتمدّنة يُعتبر نشاطُ الجوائز دليلَ حيوية للفكر والإبداع، يسمح بتفتّح المواهب ومكافأة النابغين بتقدير جهودهم معنوياً ومادياً بوصفهم وعيَ الأمة وروحَها الخلاّقة. بيد أن هذه الممارسة الاعتبارية لا تتم دائماً بصفاء كما لا تخلو من شوائب، بل كثيراً ما تصبح عرضةً لزوابع بين الكتاب المعنيين مباشرة والنقاد والصحافة المواكبة.
حدثَ هذا في بيئات ذاتِ تقاليدَ راسخة وللأدب فيها والأدباء شأنٌ رفيع، والقيمُ الرمزيةُ أعلى من الجزاء المالي، فمن الطبيعي أن تستعر المعارك خلال فترة المداولة والتخمينات، والتدافع، إلى حد التناور، ومع الإعلان تصعد حظوظ مقابل آمال تخيب، لا تسأل إذذاك عن المعايير حتى مع بروز ميزات تفوّق نص على نص، فكل شيء يُنَسّب عندئذ ويوجد له تبرير.
مرجعُنا الأهمّ في هذا الموضوع سَجله التاريخ الأدبي الفرنسي وله أمثلة باهرة حقاً وتُعدّ من الملفات المثيرة فيه، لا سيما وأبطالُها في مجال الرواية، مثلاً، روائيون عمالقةٌ تندرج أعمالُهم اليوم في متن الكلاسيكيين العظام. أذكر لكم هذه الأسماء وسترون أيّ معضلة هي حكاية الجوائز الأدبية، من دون أن نحكم بالظلم أو الفساد أو اختلال المقاييس حسب محفل وبيئة ما. آلان فورنيي (1886ـ1914) صاحب الرواية الفخمة “Le Grand Meaulnes”(1913) أخفق في الحصول على الغونكور بينما أجمع النقد يومئذ على قيمتها الباذخة. وكذلك سلين (1894ـ1961) بأعمال روائية تتفوق على بعضها وإن كانت أحلاها Voyage au bout de la nuit”(1932). وأيضاً سانت أكزوبري (1900ـ1944) مؤلف ” الأمير” الشهير، وسيمون دوبوفوار (1908ـ 1986) التي تخطتها الجائزة سنة 1943 والتحقت بها سنة 1954 عن روايتها “les Mandarins”(المثقفون).
وهل تُنسى مارغريت دوراس التي ترشحت سنة 1950 للغونكور دائماً برواياتها “Un barrage contre le pacifique” وانتظرت إلى سنة 1984 لتُتوّج بها عن روايتها “L’amant”، أذكر حققت رقم مبيع قياسياً تجاوز مليون نسخة في زمن وجيز.
بينما يبقى الأشهرُ والأقوى دلالةً في تاريخ حوادث وملابسات الجوائز الأدبية، الغونكور في قلبها، باعتبارها منذ إطلاقها سنة 1903 وإلى اليوم تقريباً تُقدر فرنسياً الأولى قيمة وإشعاعاً، بما عرفته مع ترشيح من عليه إجماع النقاد والدارسين، أحد ثلاثة من عمالقة الرواية في القرن العشرين جيمس جويس، كافكا، ثالثهم مارسيل بروست (1871ـ1922).
أحيت فرنسا العام الماضي الذكرى المئوية لوفاته صدرت طوالها عشرات السِّيَر والدراسات عن أدبه وألبومات فنية لصوره وتنقلاته الموسمية لمصيفه في النورماندي ومعيشه البورجوازي وطقوسه في باريس وذلك بين نهاية القرن التاسع عشر والعشريتين الأوليين للقرن العشرين.
ذلك أن هذا الكائن ذا المحتد الأرستقراطي، من شغف بالأدب صبِياً ولم يفعل شيئاً طيلة سنوات التعلم سوى القراءة والتدريب على تكوين ذاته وسرد ما عاشت من بوصلة الذاكرة عبر ملحمته الروائية “البحث عن الزمن الضائع”، سيصبح رمزاً ووريثاً شرعياً لأسلافه فلوبير واستندال وزولا وأندري جيد، ويتفوق عليهم بتأسيس مدرسة سردية تختص به بين الكبار.
لم يكن سهلاً على بروست بلوغ المجد الأدبي، فقد اعتكف على كتابة A la recherche du temps perdu من 1906 إلى 1922 لتصدر في سبع مجلدات، والثلاثة الأخيرة بعد رحيله.
نشر الجزء الأول منها Du coté de chez Swan عام 1913 وعلى نفقة الكاتب في دار غراسي، بعد أن رفضته غاليمار، وفي السنة نفسها تبدأ قصة أخرى موازية لمؤلفه.
عاش مارسيل بروست الإبن العليل مدلّلاً في كنف أبويه، الطبيب الثريّ، والأم الرؤوم، شديدَ الحساسية، النسمة تؤذيه والضوء يكاد يعميه، ومرض الرّبو شريكُ حياته التي لم يعمل فيها يوماً غير استثمار ريع مالي من أبويه، ثروته التي بها عاش مرفّهاً حتى مات.

رغم رخائه، واقتناعه بطاقته الأدبية، وحظوته الاجتماعية، وعزلته شبه التامة، أيضاً، كان يرغب في الخروج إلى ضوء الشهرة، هو من يغلق عليه غرفته بستائر سميكة ويعمل الليل كلّه ليستيقظ أول المساء يتبلّغ بنزرٍ ويلتقي أقل المعارف. رغم عزلته كان يرقب الوسط الأدبيّ ويتطلع كي يُعرَف هو الكاتب الموهوب الخفّاش، في فترة كانت باريس فيها زاهية بالاحتفالات وحفاوة الجوائز، سيدتها منذئذ (الغونكور Le Goncourt). لذلك سارع إلى ترشيح (سوان) لدورة 1913 رغم أنه لم يلق تشجيعاً من المقربين، وهو لا يعلم بعد من أين تؤكل كتف الجوائز.
لنعرّف أولاً خالي الذهن بهذه الجائزة المرموقة، ولماذا يتطلع الكتاب لحظوة نيلها. هي من اقتراح الأخوين جول وإدمون دوغونكور ووُجدت بوصية من إدموند غونكور سنة 1892 لتكون جمعية لرجال الأدب تعتمد ريعاً أتياً من بيع ممتلكات وخُصِّص لمكافأة كاتب مستحق. قانونها الأساس ينص على عضوية أهل الأدب وحدهم، بلا أعيان ولا سياسيين. وتكافئ الجائزة سنوياً عملاً ثمرة خيال d’imagination، أفضل رواية، لأحسن عمل في النثر فقط ينُشر في عامه. تضيف الوصية الموجهة إلى أعضاء ما سيسمى أعضاء أكاديمية غونكور: “أمنيتي العظمى التي أرجو الأعضاء في المستقبل أن يستحضروها في ذاكرتهم، هي أن تمنح للشباب، لأصالة الموهبة، للمحاولات الجديدة والجريئة للفكر والشكل؛ وأن يكون للرواية بشروط المساواة الأفضلية”. عدد أعضائها بعشرة فتسمت أكاديمية العشرة.
في كتاب لطيف “بروست ، جائزة غونكور، انتفاضة أدبية” (يوليو، 2019) يعرض الباحث والروائي تييري لاغي بتفصيل ما جرى لصاحب “البحث عن الزمن الضائع” مع مساعيه الشاقة لنيل الجائزة، وعبرها لنوع العلاقات والملابسات المرتبط بها والوسط الباريسي وقتها.
في عام 1913 وجد بروست نفسه مع كوكبة من فرسان الرواية في وقته: فاليري لاربو، ألان فورنيي، روجي مارتان، ليون فيرث، يعتقد هو أن عبقريته تطالهم جميعاً ولا يجدر به القيام بحملة ومساع لما يراه محتَقراً، واعياً كذلك أنه كاتب مغمور بعيدٌ عن الأضواء، غير معنيٍّ بتاتاً بالمكافأة المالية لجائزة من حيثياتها أن تُمنح لكاتب محتاج، بقدر ما ستعوّض، كما كتب نفسه، “للعزلة التي عاشها سنين طويلة عن الحياة الأدبية وجعلته وهو مغمور أكثر من أي مبتدئ”.
واجهه أنصاره بالحجة المالية لثنيه عن الترشيح، وراسل جهاتٍ مقربة بين الأدباء والصحافيين ليقنعهم بروايته أفراد من الأكاديمية مباشرة فلا يلقى أيّ تشجيع مما جعله يلتفت نحو جائزة أخرى تمنحها مؤسسة نسوية (la vie heureuse) نواة جائزةFemina لترسوّ النهاية على مارك أدلير مخرجاً فيما لم يحصل بروست سوى على صوت يتيم!

يعود بروست إلى مواصلة مسيرته الروائية الشاقة بمثابرة مجهدة تثمر الأجزاء المتوالية من “البحث…” ليستيقظ فيه سنة 1919 وقد أكمل رواية A l’ombre des jeunes filles en fleurs (الجزء الثاني 1918) وتتجدد حميته لخوض المنافسة الغونكورية بعد انصرام خمس سنوات على المحاولة الخائبة، وقد صار أكثر ثقة بفنه وبات لاسمه حضوره اللافت، كما ربط علاقات وأحس أن عليه الخروج من مغارته. بعد سنوات الحرب العالمية الأولى احتجبت فيها الجائزة لعامين، وهو أولى بها من غيره، من دون أن يحسب أن المعركة التي يجب أن يخوض في هذه الدورة أعتى من سابقتها، نظراً لمواهب المنافسين، وللمواضيع ذات الحظوة بين الناس واستحقاق اللجان، وكذلك الشروط الملزمة في وصية إدموند غونكور لمنح جائزته.
يا لها من عقبات وجد فيها الخصوم أكثر من المناصرين على رأسهم عضو الأكاديمية ليون دودي، هو وروني تعبّآ لحشد المدافعين والتأثير لكسب أصوات أعضاء نافذين في لجنة العشرة، ولم يألُ بروست بدوره جهداً في المراسلة وطرق الأبواب لإسقاط اعتراضات وجيهة للخصوم قوامها الشروط الشكلية وليس ضرورة قيمة العمل الروائي البروستي رغم غمزهم من قيمته وذاتيته المفرطة وشكلانيته المرضية، ملتفين حول كاتب اعتبروه صمّام إجماع والجدير بالغونكور.

إنهRoland Doegeles (1885ـ 1973) صاحب: “Crois de bois” (1919) رواية تصب في قلب ويلات الحرب الأدبية المطلوبة، ومؤلفها مقاتل بوسام حربي، وهو شاب في الثلاثين، أي نقيض تام لغريمه بروست الذي بالرغم من كل ما حيك ضده من مؤامرات وأقيم حواجز سيعضّ بالنواجذ لبلوغ مراده، سيصطف إلى جانبه غالبية أعضاء الأكاديمية (6 من 10) ويزفّ إليه أصدقاؤه خبر الفوز مساء 10 كانون الثاني (يناير)، أخرجته خادمته في العاشرة ليلاً من نومه المعتاد، فيغمره حبور عابر ويعود لمضجعه.
نعم، نال المنى، ولكن تبدأ ضده في الغداة حملة شعواء يقودها صحافيون جلّهم من اليسار وآخرون من الوسط الشعبي يجردونه من استحقاق الغونكور لافتقاره خصوصاً إلى وصايا مؤسسها، مبجلين دوغليس الذي ابتلع مرارته ووجد عزاءه في جائزة (فيمينا) لا يستهان بقيمتها المعنوية والمالية.
وتتوالى بعدها حلقات الجائزة، فائزين وخاسرين، بحق وبحيف، لكن تاريخ الأدب لا يذكر اليوم ودائماً إلا الأصلح، وها هو مارسيل بروست عملاق عالمي للرواية أكبر من كل الجوائز، فتفكروا.