جمانة حداد
النهار
30102017
حادثة حيّ السلّم، بما رافقها من “ثورة غضب”، وصلت إلى حدٍّ تعبيريّ، وجدانيّ، انفعاليّ، غير مسبوق، وبما آلت إليه من نهايةٍ مكسورة الخاطر، قد زلزلت كياني. فهي أظهرت كم أن الإنسان في بلادي لا قيمة له أمام قوى الطغيان والإرهاب التي تستبدّ به، وتستعبده، وتصادر رأيه، وتمعس كرامته، وتتلاعب بمصيره، لتبيعه في الأخير الأخير في أسواق النخاسة، وبأبخس الأثمان.
السبب الثاني، أن الصرخة التي أطلقها هؤلاء إنما تعبّر لا عن وجعٍ دفين فحسب، بل عن مكبوتٍ هائل، متعدّد المعنى والدلالة – وهذا هو اللافت – وقد وجد هذا المكبوت ثغرةً طفيفة خرج بواسطتها من عتمة الصمت الإلزامي إلى ضوء الصرخة المدوية، التي أطلقت العنان لنفسها بدون قيد أو شرط، ولم تحسب حساباً إلاّ لذاتها المكبوتة، الناطقة بحسرتها.
السبب الثالث، أن هذا المكبوت الذي خرج من السرّ إلى العلن – وإن تضمّن تعابير عشوائية -، هو إعلانٌ تمرديّ غير مسبوق في مجاله، لأن صاحبه تجرّأ على مَن لا يجوز التجرؤ عليه، متخطياً ما رُسم في هذا السياق من “خطوط حمر”، بحيث أفضى هذا التجرؤ إلى ما لا تُحمَد عقباه.
في هذا الصدد، زلزلني حقاً، هذا الذي لا تُحمَد عقباه، وهو السبب غير الظاهر، الذي حمل (أو اضطرّ، أو أجبر) صاحب التجرؤ على تقديم اعتذارٍ علنيّ مشهود، يوازي التكفير عن خطيئة كبرى، وقد تردّد صدى هذا الاعتذار الموجع والمُذِلّ والمهين، لدى القاصي قبل الداني، ونفذ إلى أعماق الوجدان الجمعي، المعنيّ بالحادثة. مذكّراً هذه الأعماق، وهذا الوجدان الجمعي، بوجود التزام الخطوط والحدود، وعدم الخروج عليها البتة، أياً تكن الموجبات والدوافع والأسباب.
كلّ شيء كان يمكنه أن يظلّ “طبيعياً” و”عادياً” في حيّ السلّم، من حيث فعل إزالة المخالفات بواسطة القوى الأمنية الشرعية، ومن حيث ردّ الفعل الاحتجاجي الشعبي العفوي على الإزالة. لكن ظهور المكبوت بالطريقة البالغة الفجاجة، والاعتذار المنسحق عنه، من طريق الاستغفار، والاستعداد للتكفير عن الذنب، وبأيّ ثمن، إذا كانا يدلاّن على شيء فعلى حياة الإذلال التي لا يحياها فحسب مَن أحتجّ وارتكب الغلطة، غلطة التعبير عن المكبوت، وإطلاق الشتيمة، بل يُمنى بها كلّ أصحاب الحقوق والكرامات المدعوسة في كلّ لبنان، أياً كان الداعس والمدعوس. ولا استثناء.