الرئيسية / home slide / كتاب مُشاة البحرية الأمريكية لاستكشاف نهر الأردن 1848: المُعاينة الاستشراقية بين الغاية والتمثيل

كتاب مُشاة البحرية الأمريكية لاستكشاف نهر الأردن 1848: المُعاينة الاستشراقية بين الغاية والتمثيل

رامي أبو شهاب
القدس العربي
13032023

في سياق مشْروع الكاتب والمُترجم جمال أبو غيدا بترجمة كتب الرحلات التي توجهت إلى منطقة الشرق الأوسط، وبوجهٍ خاص فلسطين، صدرت ترجمة كتاب الضابط الأمريكي وليم فرانسيس لينش بعنوان «بعثة مُشاة البحرية الأمريكية المارينز لاستكشاف نهر الأردن والبحر الميت سنة 1848» عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر عام 2021، وقد سبق للمترجم أن أصدر كتابين: الأول بعنوان «الحياة في بيوت فلسطين» لماري أليزا روجرز، والثاني كتاب «أزمنة مثيرة» لجيمس فن القنصل البريطاني في فلسطين.

قراءة تمهيدية

يتكون الكتاب من 614 صفحة من القطع الكبير مشفوعاً بتقديم للمؤرخ جوني منصور الذي يرى أن هذه الرحلات جاءت ضمن الإطار العام لاستكشاف المنطقة، فيستعرض عدداً من الرحلات ودوافعها، وتحدد باهتمامات دينية أقرب إلى اعتماد محكيات خرافية استقيت من التوراة، وبذلك فهي تكاد تقتربُ من أن تكون أدباً وخواطر تأملية في جانب كبير منها، في حين أن ثمة جزءاً يتعلق بالطابع العملي، أو العلمي المتمثل بوضع أو رسم خرائط معرفية، غير أن الهدف الثاني برز على شكل إشارات مقتضبة قياساً إلى ما في الكتاب من اتصالٍ بذكر الأحداث والتواريخ والأماكن والأشخاص، كما الانطباعات في سِياق عمليات الوصف والسرد.
يُشير منصور إلى أن تلك الرحلات بدأت مع دراسة للباحث الألماني أولريخ ياسبر سيتزين (1767-1811) الذي يعد من أوائل الباحثين الذين اهتموا بالبحر الميت، فكانت رحلته سنة 1807، ومن ثم تتابعت رحلات المستشرقين الألمان والإنكليز والفرنسيين وغيرهم، في حين يعرض التقديم لخلفية الضابط لينش الذي يعمل في سلاح البحرية في الجيش الأمريكي، بالتوازي مع تميزه بنزعة استكشافية، على الرغم من غياب الخلفية العلمية. يذهب منصور إلى تأكيد التنافس الاستعماري بين بريطانيا والولايات المُتحدة، غير أن ما يجمع هذا التنافس الاهتمام بالمسألة اليهودية، ولاسيما البعد المتخيل القائم على تحقيق مقولة أرض الميعاد، في حين يرى مترجم الكتاب جمال أبو غيدا بأن هذا الموضوع يكاد يجد صَداه مع قرار دونالد ترامب بنقل السفارة الأمريكية إلى القدس؛ ما يعني أن ثمة مرجعية واضحة تتخلل العقل الغربي التي لا تنظر إلى هذه المنطقة إلا عبر زاوية واحدة، ونعني الرغبة في تحييد الحقائق الأخرى لصالح المشروع الصهيوني. ويعلل ذلك جمال أبو غيدا بأن هذا يعود إلى سيطرة المذهب البروتستانتي أو مفهوم «المشيحاني» في الولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا، وبذلك يعد هذا النهج أحد المقدمات التي أسهمت في تشكيل المشروع الصهيوني الذي ينهض على إقامة وطن قومي لليهود في فلسطين، وما تبع ذلك من وعد بلفور.
تنهض الرحلة على تبويب زمني يبدأ من قبيل انطلاق الرحلة، وصولاً إلى نهايتها، مع ارتباط السرد بالمناطق، ووصف فضاءاتها من نواحٍ: بيئية، وثقافية، وتاريخية، كما وصف الشعوب والسكان المحليين. يبدو مسير الرحلة ضمن خطة تعتمد مسارات مائية أو برية تبعاً لمُقتضيات الجغرافيا، بكل ما ينطوي عليه ذلك من أخطار تتعلق بالتيار النهري، كما الخوف من غزوات سكان المنطقة المحليين، خاصة البدو، مع الحرص على تأمين الدعم اللوجستي، وعمليات التنسيق مع شيوخ تلك المناطق، وسكانها.

مُخيلة ووقائع

يحتمل الكتاب الكثير من إطلاق الأحكام تجاه بعض القضايا، وكأن لينش لا ينطلق من محاولة البحث عما وراء ما يواجهه إنما يصف ما يراه عبر مستويين: الأول خارجي يتعلق بمتعلقات الرحلة التي بدأت من مدينة نيويورك وصولاً إلى فلسطين، أو منبع نهر الأردن، والثاني تأسيس رحلته على موروث سبقه إليه بعض الرحالة، بالتوازي مع رغبة عميقة بزيارة الأرض التي كانت مهداً للعرق البشري – كما يقول، فعلى هذه الأرض إنجازات حققتها سلالات غامضة على أرض تقدست بخُطى المخلص السيد المسيح، وهنا يُلاحظ بأن الإطار الديني كان جزءاً من دوافع تلك الرحلة، فتعمد لينش بالمياه المقدسة، أو في المكان الذي يعد الأكثر قداسة. تبدو المُخيلة الموروثة المتعلقة بالمكان جزءاً من تكوين لينش، ولاسيما البحر الميت، وما يحيط به من غموض، ومرويات عجائبية تنال تقديراً كبيراً لدى المسيحيين أو المؤمن المسيحي، كما يقول لينش، غير أنه يتجاوز ذلك للقفز إلى استنتاجات معرفية، والأخيرة تعد جزءاً مركزياً في خطابات الاستشراق، حيث طفق لينش يذكر بعض الأحداث التاريخية التي ترتبط ببعض الأماكن، ولا سيما المعارك والأشخاص والمفاصل التاريخية، فيحاول أن يستنتج بعض الدروس التاريخية التي تتمحور حول صراع الإمبراطوريات، وتحولاتها كما يذكر في الصفحة رقم (44). ولعل الكثير من الأحداث أو الشخصيات الذين يأتي على ذكرهم لينش، يكشف عن معرفة تاريخية، في حين تتضح ثقافته ببعض الأعمال الأدبية، بما في ذلك الجغرافيا والتاريخ، كما يتضح من وصفه للإمبراطورية العثمانية، وكياناتها، غير أن هذه المعرفة تعد جزءاً من مخيلة مركزية تنظر إلى هذه الإمبراطورية في وضعية الأفول؛ على الرغم مما تتمتع به من اتساع وتنوع جغرافي وعرقي وثقافي، انطلاقاً من مُطابقة مقولة رجل أوروبا المريض.

بتاريخ 26 شباط/فبراير تبدأ الرحلة من إسطنبول إلى بلاد الشام، وفي إسطنبول يصف لقاءه مع السلطان العثماني، كما بعض الطقوس التي تتصل بالضيافة والملابس، ومعالم المدينة التي يصف سلطانها بأنه طاغية شرقي مُستبد، في حين تبرز رؤيته تجاه المرأة مسكونة بنزعة استشراقية، حين يقول إن المرأة في هذه البلاد سواء أكانت تحيا في القصور، أم في المناطق الحقيرة فإنها تحيا حياة العبودية المنزلية.
يرى لينش أن مظاهر البؤس تبدو واضحة على رعايا الدولة العثمانية، خاصة في الأطراف، فيخلص إلى نتيجة قوامها أن هذه الدولة وهؤلاء الرعايا بعيدون عن إدراك الأفكار التنويرية التي تنتمي إلى ثقافة العالم الجديد، بل إنه يشمل ضمن هذا الرأي الإمبراطوريات الكلاسيكية، فيأتي على جرائم الإمبراطورية الفرنسية التي تفوقت على جرائم سدوم وعمورة – القرى التي خسفها الله بسبب مفاسد أهلها – وهذا أيضاً ينسحب على إنكلترا، وعلى الرغم من وجود الكثير من الكتل النصية التي تتصل ببيان النماذج السلبية تجاه المنطقة، غير أننا لا نعدم شيئاً من الموضوعية في وصف بعض الممارسات؛ من ذلك مفهوم العبودية الذي يبدو أقل ضراوة مما هو موجود في الغرب أو في المجتمعات الغربية.
وهنا نلاحظ استغراق الكتاب بقيم التفصيل التي تكاد تكون مُبالغ فيها، بل قد تقود أحياناً إلى نوع من الملل، ونعني الرحلة من إسطنبول إلى بيروت، ومن ثم عكا، وهكذا، غير أن الوصف للمدن يأتي بالتوازي مع استحضار التشكيل الثقافي، وبين ثنايا هذا المقصد نلمح نوعاً من الغرور والفخر بالذات الأمريكية، بوصفها الأمة التي ينتمي إليها، فيصف وصول الوجود الأمريكي على هذه الأرض بأنه يشكل نوعاً من الفخر المشوب بأمنية تتمثل بتخليص الشعب الذي يعيش حياة الهوان في الوقت الحاضر، ويعني الشعب اليهودي – كما يشرح مُترجم الكتاب في الحاشية- للدلالة على تمكن مقولة أرض الميعاد في وعي هذا الضابط الذي يبدو مأخوذا بقيم متخيلة، ولاسيما النظر إلى رحلته بوصفها رحلة ذات أهداف نبيلة.

تبرز نزعة الاستعلاء عبر التمثيلات النصية كما الممارسات، فالضابط يتعامل مع سكان المنطقة بنوع من الندية فيرفض تقديم الرشاوى والمنح والهدايا، لكنه يقدم فقط الأجر الذي يستحق لمن يساعدونه، ومن هنا يصف سكان تلك المناطق سواء أكانوا من الفلاحين أو الأعراب أو البدو أو الأتراك بالقذارة.

ادعاءات استشراقية

تبرز نزعة الاستعلاء عبر التمثيلات النصية كما الممارسات، فالضابط يتعامل مع سكان المنطقة بنوع من الندية فيرفض تقديم الرشاوى والمنح والهدايا، لكنه يقدم فقط الأجر الذي يستحق لمن يساعدونه، ومن هنا يصف سكان تلك المناطق سواء أكانوا من الفلاحين أو الأعراب أو البدو أو الأتراك بالقذارة، بما في ذلك طعامهم، وبعض طرق تصرفهم وسلوكهم، لكن ذلك لا يمنعه في بعض الأحيان من أن يكون موضوعياً، وبوجه خاص حين يصف شريفين من أشراف مكة وهما (عقيل وهزاع) بوصفهما مثالا للشخص العربي الذي يتميز بالوفاء، فالشريف عقيل يتميز بالرجولة والشرف أضعاف تلك التي كانت في قلب الفارس قلب الأسد، بيد أنه – مع ذلك – لا ينفك يصف لينش العربي بالجاهل والبربري.. وهي مفردات ما فتئت تتكرر في خطاب الرحلة التي تنحو نحو معالجة ثقافية استشراقية، تحمل قدراً من المجانسة حين يصف سكان تلك المنطقة بأنهم بعيدون جداً عن قيم المعرفة والتحضر والمدنية، كما أنهم ينطوون على شيء من القيم الظاهرية المبالغة فيها، في حين يتوقف لينش عند وصف الوجود اليهودي، وغالباً ما يشير – بخبث- إلى اضطهاد الأقليات كاليهود والمسيحيين عبر انطباعات سريعة تفتقر إلى الوقوف على الحقائق، أو فهم السياقات الخاصة للمنطقة.

يلاحظ لينش أن الكثير من طبائع أو سلوكيات سكان المنطقة لا يتصل بمفهوم العوامل الوراثية، ومؤثراتها؛ إنما يعتمد مقاربة ثقافية بيئية اجتماعية، ومن ذلك حين يُشير إلى ما يتمتع به العرب (ويعني البدو) من تناقض، فهم يرأفون بالحيوان، لكنهم لا يتأثرون تجاه سفك دماء أبناء جلدتهم، غير أن منطلقات لينش تتضح بعمق حين يأخذ بعقد مقارنة بين البدو وسكان أمريكا الأصليين (الهنود الحمر) على مستوى الخصائص العرقية الخارجية، والصفات الداخلية. ولعل القارئ سيلاحظ بأن فعل المقارنة مع أنه يحمل الكثير من السلبية تجاه العرقين، غير أننا نكاد نلمح شيئاً من الاحتقار للشخصية العربية عامة، والبدوية خاصة، عبر تأكيد سمات الغدر والخيانة واللصوصية والعربدة، بل إن كلا العرقين عبارة عن كائنات همجية نتجت بفعل البيئة والعوامل التاريخية والثقافية، وهنا يستعيد مقولة شاتوبريان الذي قال: «كل شيء في سلوك وحياة الهندي الأحمر الأمريكي يظهر همجياً لم ينضج بعد بما يؤهله للالتحاق بركب المدنية، أما في حالة الأعرابي، فكل شيء يشير إلى رجل كان متمدناً ذات زمن بيد أنه انحدر في سلوكه إلى الدرك الأسفل من الهمجية، في حين أن لينش يخلص إلى الآتي: «ووفقاً لأفضل ما تكون لديّ من أحكام بشأن طبيعة الأعرابي، يمكنني أن أقول إنه أدنى منزلة بمراحل كثيرة من الهندي الشمال أمريكي» لكنه ينتهي إلى أهمية محو الآخر متسائلاً: «إذا ما قدر للهندي الأحمر أن يختفي أو أن يندمج مع العرق الأبيض، فإن الزمن كفيل بالإجابة عن هذا السؤال، ما يعني أن ثقافة الآخر ينبغي أن تزال أو ان تنتهي عبر الاندماج، وإظهار الولاء للرجل الأبيض».
وفي الختام لا يمكن إلا أن نؤكد على أهمية الكتاب وجدل مقولاته التي تحتاج إلى الكثير من البحث، فقد قدمت هذه الترجمة مدخلاً مهماً من أجل فهم خطابات رحلات المستشرقين، كما أن ترجمة هذا الكتاب بدت على قدر كبير من التوفيق، والرصانة، علاوة على أن المترجم تمكن من خدمة هذه الترجمة عبر اعتماد الهوامش والإحالات كما التعليقات التي تضيء الكثير من الجوانب من اجل فهم أكبر للكتاب، وسياقاته.

كاتب أردني فلسطيني