28-03-2023 | 00:00 المصدر: “النهار”
كتاب “عهود رئاسية” لكمال ديب.
الدكتور إيلي توما*
صدر في بيروت عن دار النهار للنشر #كتاب الدكتور #كمال ديب “#عهود رئاسية أزمات وحقائق من شارل دباس إلى ميشال عون“، في 959 صفحة من القطع المتوسط. وقد سمح لي الوقت بأن أقرأه أخيراً وأقدّمه في هذه العجالة. وقد اعتمدت هنا منهج مراجعة الكتاب الذي نتبعه في جامعات كندا ويتضمّن خمسة أقسام: (1) معلومة سريعة عن الكتاب تسمّى index (وفيها اسم المؤلف وعنوان الكتاب وتاريخ النشر وعدد الصفحات الخ) (2) يليها وصف مضمونه، ثم (3) تحليل نقاط قوّته وجِدّته، و(4) قسم يحتوي نقداً بنّاءً حول ما قد نقص الكتاب من مراجع أو مضمون. أمّا القسم الأخير (5) فيتضمّن لمحة عن الكاتب ومؤلفاته.

والعادة المتبعة في كندا أن يُكلّف الطلاب إن كان عددهم كبيراً في الصف بمراجعة كتاب يختارونه، شرط أن يوافق الأستاذ على عنوان الكتاب الذي سيختاره كل طالب. ثم إنّ الطالب الذي يقدّم مراجعة لا تحترم الأقسام الخمسة المذكورة أعلاه، فعلامته تكاد تناهز الصفر، إذ لا يحق للطالب أن يهجر منهج المراجعة ويكتب من عندياته ما لا علاقة له بالكتاب الذي اختاره، أو يتعرّض لشخص الكاتب وكأنّ لديه ثأراً مضمراً.
ثانياً، في المضمون، يقع كتاب “عهود رئاسية” في خمسة أجزاء وفي كل جزء عدد من الفصول، فنقرأ توطئة ومقدمة في بداية الكتاب ثم فصلاً أو أكثر لكل عهد رئاسي بدءاً بشارل دباس، مروراً بإميل إدّه وبشارة الخوري وكميل شمعون وفؤاد شهاب وشارل حلو، ثم سليمان فرنجية والياس سركيس وبشير الجميّل وأمين الجميّل والياس الهرواي وإميل لحود وميشال سليمان، انتهاءً بميشال عون، وهو الفصل رقم 18. ونصل إلى خاتمة متفائلة عن مستقبل لبنان.
في مطلع الكتاب شرح مقتضب عن الخلفية التاريخية لنظام الحكم الذي سبق الجمهورية الأولى وعن نشأة الكيان في ظل الانتداب الفرنسي (1920-1943) وترسيم حدود لبنان التي انتهى إليها عام 1923 (صفحات 35-134)، لنبدأ فوراً بعهد الرئيس شارل دباس (صفحة 138). وهو كان الأرثوذكسي الوحيد في هذا المنصب، ثم تتوالى الفصول عن باقي الرؤساء وكلّهم من الموارنة.
ثالثاً، في القيمة المضافة للكتاب، نحن أمام عمل غير مسبوقٍ يلتقط اللحظة التي يعيشها لبنان اليوم، من فراغ رئاسي وأزمة مالية اقتصادية ووضع معيشي اجتماعي صعب تفاقمه المشاعر التقسيمية. والجميل أنّ كتاب كمال ديب يعود إلى طرح الأمل في الدستور والنظام السياسي الذي شهد 15 عهداً رئاسياً خلال مئة عام. فيطرحُ الكتاب منهجاً جديداً في كتابة تاريخ لبنان يميّزه عن أعمال أخرى تؤرّخ للوطن الصغير، حيث ينطلق من عشرة مفاهيم متقدِّمة، ربّما، لم يقاربْها غيرُه من المؤرخين:
في أنّ المَناطقَ المضمومة (لبنان الطَرَفي: عكار والجنوب والبقاع) هي عصبُ تاريخ لبنان، صَبَغَتْ كلّ العهود الرئاسيّة، فيما تنطلق المؤلفات الأخرى – ولها مبرراتها طبعاً – من نواة بيروت وجبل لبنان. وفي أنّ تاريخ لبنان الحديث ليس سلسلةَ أحداثٍ غير مترابطةٍ من أزْمةٍ داخلية إلى غَزْوٍ خارجيّ، ومن نموٍّ اقتصاديّ إلى ركودٍ وانهيار، بل هو تاريخٌ منطقيّ في عهود رئاسيّة لها عناوينُ وإنجازات وإخفاقات تواكب أزمات مُذهلة. وأنّ جذورَ الفساد والمحاصصة كانت حاضرةً بقوّةٍ في الفترة التي سبقَتْ ولادةَ لبنان وهي مستمرةٌ اليوم وغداً. وأنّ الطائفيّة والإقطاع السياسيّ اللذين يبرّران الفساد والمحاصصة ليسا قدراً، بل يمكن تجاوزُهما وخلقُ دولةِ الرعاية المدنيّة. وأنّ محيط لبنان العربي يتضمّن عمقين (العمق الأول السعودية ودول الخليج، والعمق الثاني مصر وسوريا والعراق)، وليس عمقاً واحداً، ما يساعد في فهم أفضل للعهود الرئاسية والأزمات.
ويرى الكاتب أنّ حياد لبنان عن صراعات المنطقة قد حماه مجتمعاً واقتصاداً، ولكنّه حياد مبتور يجلب استقراراً مؤقتاً. وأنّ الكيان حقيقة دامغة موجودة بالفعل وبالقوة، وله نفوذ ثقافي حضاري واقتصادي في محيطه العربي، لا يخضع لتقسيم، وأنّ التكامل الاقتصادي مع سوق عربية واعدة لحركة الثروة البشرية والرساميل هو مسار لبنان الصحي. كما أنّ التنوّع هو سمة لبنان ولكن يمكن استثماره بإيجابية عبر خلق فضاءات تلاقٍ مكانية وقانونية تسمح بتطوير المجتمع. ونهج بناء الدولة لم يقتصر على عهد فؤاد شهاب، بل هو عمل متواصل منذ عام 1943 حتى عام 1966، ثم بدأ تقويض هذا النهج منذ 1976 وانهيار الدولة عام 1976 لتليه عهود عجزت عن مواصلة النهج لأسباب مختلفة.
وفوق هذه الإضاءات، يقدّم كمال ديب المعلوماتِ الأساسيّةَ عن تاريخ لبنان الحديث وشؤونه وشجونه ضمن قالب مشوِّقٍ يفيد الطالب والاختصاصيَّ، كما أهلَ السّياسة والاقْتصاد والإعلام في لبنان وفي خارجه، إذ نجد في كتاب واحد نصّاً يكاد يكون موسوعة متكاملة عن 15 رئيس جمهورية لنصل بعدها إلى اللحظة الآنية.
رابعاً، رغم تعلّقي بقراءة الكتاب، وجدتُ عدد صفحاته الكبير يجعله صعب الحمل أثناء المطالعة. ولكن هذه مسألة تفضيل شخصي، إذ قد يقرأ البعض كتباً وروايات بعدد صفحاتٍ أكبر من “عهود رئاسية” (مثل روايات “البؤساء” لفكتور هيغو و”الحرب والسلم” لتولستوي و”الزمن الضائع” لمارسيل بروو، وكتاب إدوار غيبون “تاريخ سقوط الامبراطورية الرومانية” وكتاب رنسيمان عن الحروب الصليبية) يراوح عدد صفحاتها بين 1500 إلى 2500 صفحة. كما كنتُ أفضّل لو أضاف المؤلف عناوين فرعية داخل الفصول لتسهيل المتابعة (رغم أنّه قطّع الفصول بترقيم مناسب).
خامساً، إنّ كمال ديب هو كاتب وأكاديمي كندي لبناني، عمل 25 سنة في الحكومة الفيديرالية الكندية، وهو حالياً أستاذ جامعي منذ عشر سنوات، صدر له منذ 2001 أكثر من عشرين كتاباً بالعربية والانكليزية والفرنسية والألمانية. وأبرز ما صدر له في بيروت بالعربية كتب: “أمراء الحرب وتجار الهيكل”، “هذا الجسر العتيق”، “تاريخ سورية المعاصر”، “سورية في التاريخ”، ثلاثية إنترا (يوسف بيدس، روجيه تمرز، رفيق الحريري) و”لعنة قايين حروب الغاز” و”موجز تاريخ العراق”. وأربعة أعمال أدبية (هي رواية “مجدلى” وكتاب “تاريخ لبنان الثقافي” عن المكتبة الشرقية وكتاب “بيروت والحداثة” ورواية “آنغيلا” عن دار النهار). ولقد شرح لي المؤلف أنّه بصدد تأليف رواية جديدة تصدر في نهاية 2024 تحت اسم تمهيدي هو “مَندَلى” تقع أحداثها في الشوف والمتن، تليها رواية رابعة تقع أحداثها في منطقة عكّار.
وأخيراً، أعترف بأنّ قراءتي لكتاب “عهود رئاسية” كانت سريعة لتشوّقي لمعرفة التفاصيل المذهلة عن بعض العهود، ولكن احترام الكتاب واجب يتطلب قراءة متأنية هادئة حيث تصحّ مقارنة العهود. وعلى سبيل المثال، في ظل الجمهورية الأولى (1926-1989) كانت هناك شكوى إسلامية دائمة من أنّ الرئيس المسيحي لا يقبل بالعرب والعروبة ويناهض سوريا ولا يتبنى القضية الفلسطينية ولا يدافع عن جنوب لبنان ويتمتّع بامتيازات كبيرة ويتعامل مع رئيسي الحكومة ومجلس النواب بفوقية الخ. ولكن المفارقة أنّ الجمهورية الثانية (1989-2022) شهدت رؤساء جمهورية موارنة يلتزمون بالضبط بما كان يطالب به المسلمون سابقاً. ومع ذلك “لا مع سيدي بخير ولا مع ستي بخير”. ويبدو أنّ الجمهورية الثانية ستستمر حيث يُنتخب رئيس جديد عام 2023 دون حاجة إلى دستور جديد وجمهورية ثالثة.
* جامعة كيبك – كندا