الرئيسية / home slide / كارول منصور تعيد والدتها إلى يافا وتنثرها في دارها وبحرها

كارول منصور تعيد والدتها إلى يافا وتنثرها في دارها وبحرها

زهرة مرعي
القدس العربي
13032023

بيرو ت – «القدس العربي»: «عايدة عائدة»، فيلم تسجيلي جديد للمخرجة الفلسطينية اللبنانية كارول منصور. سردية فلسطينية وجدت طريقها للنور والانطلاق إلى حيث يجب، وتأكيد لتوارث الذاكرة بين الأجيال. حكاية عائلية خاصة بالمخرجة، أشركت فيها جمهوراً عريضاً، لبى دعوتها للعرض الأول في قاعة بطحيش في الجامعة الأمريكية في بيروت. فيلم ميزته البحث عن الحضن الأول، والطمأنينة في كنفه في ختام المشوار.
عبْر «عايدة عائدة» تحفظ المخرجة كارول منصور للتاريخ واحدة من ملايين الحكايات الفلسطينية، كما وصلتها مروية من والدتها عايدة عبود. المدى الزمني للفيلم يتشكّل من عدة سنوات من تاريخ العائلة، منها شهادات لعايدة وأخرى لصور من مراحل عمرية متنوعة. واستحوذت السنوات التي لازمت فيها «عايدة» سريرها في هجرتها الثانية مع عائلتها إلى مونتريال، على المساحة الأكبر.
ذاكرة عايدة عبود تواصلت مع الماضي بنقاء. ولادتها في مدينة يافا. والديها. أخوتها. مدرستها. منزل العائلة. المدينة المزدهرة. وعملها في مصرف بريطاني. وصداقات والديها مع يهود من أهل البلاد. والهروب عبر البحر إلى فندق في «برمانا» في لبنان في آذار/مارس 1948. كما الجميع اعتقدوا أنه هروب لأيام من الحرب. فقد أوصت والدة عايدة مساعدتها المنزلية بعدم الغياب طويلاً «إحنا مش مطولين.. أسبوعين بالكتير وبنرجع».
أغمضت «عايدة» عينيها في «مونريال» دون أن تحقق حلُمها برؤية يافا ثانية. صممت عائلتها على إعادتها إليها. ومن مونتريال بدأت رحلة العودة الى البلاد. صديقتان لكارول وصلتا فلسطين برفقة رمادها، الذي تموضع في لفتة فنية مؤثرة فوق كرسي السيارة ملتزماً قوانين الأمان والحزام، بعد أن سمعت من إحدى السيدتين «حمدالله ع السلامة عايدة» لدى هبوط الطائرة. الفنانة الشجاعة رائدة طه كانت بانتظارهما في يافا. وبدأت رحلة البحث عن دار «آل عبود» تبعاً لبعض الإشارات المساعدة. ووفق الطريقة العربية «إللي بيسأل ما بيتهش».
ووصلت عايدة إلى الدار. لحظة مؤثرة دون شك. حظ الفريق المولج بعودة عايدة «بيفلق الصخر». العائلة الصهيونية المحتلّة لـ»أملاك الغائبين» لم تكن في الدار. بهدوء وفي زاوية من الحديقة، وتحت ظلال شجرة صغيرة اختارت رائدة طه المكان. حفرته بيدها. نسقته ورتبته وأودعت بعضاً من عايدة في ثرى دارها. غطته. ووزعت عليها أزهاراً من الحديقة كانت تحبها. أنهت المهمة ورحلت بعد اطمئنان كارول منصور عبر الفيديو إلى والدتها العائدة الى مرْبع صباها، متحدية كلّ الممنوعات. هو انتصار نفسي ومعنوي.
رحلة عودة عايدة تتشكل من أضلاع ثلاثة، أولها اُنجز بسلام كبير. والثاني لم تكن دونه عقبات. فمدافن العائلة ما زالت قائمة وتحمل اسم عبود. قريباً منها اختارت رائدة طه المرقد الثاني لعايدة في يافا. الرحلة الأخيرة كانت نحو البحر الذي أحبته عايدة ونعمت بجماله حتى عمر الـ21. «هون البحر بيجنن» قالت حاملة الأمانة، وصرخت بصوتها الواثق «هذا البحر لييييي».
صحيح أن فيديو الهاتف النقال شكّل الكاميرا، التي رافقت فريق «عايدة عائدة»، لكنه حقق تواصلاً إنسانياً ضرورياً مع كارول منصور، التي شيّعت والدتها عن بعد، تخللته لحظات مؤثرة ودموع. ولا شك أنها شكّلت ضغطاً نفسياً على رائدة طه الإنسانة، نجحت الفنانة في اخفائه. مشاهد لافته ساهمت حركة الماء والهواء بتشكيلها مع نزول رائدة طه برفقة رماد عايدة إلى البحر. لم يختف الرماد سريعاً عن سطح الماء، تدلل وتتهادى. رسم خطوطاً وراح يسبح بانسياب. وعندما بدأت رشة منه تتشكل تحت الماء بدت وكأنها تعانق البحر. نُثر الرماد تزامناً مع بدايات حلول المساء، فأرخى بظلال فيها خشوع الوداع الأخير، ولحظة ملامسة الوطن الممنوع رغماً عن سارقيه.
فلترقد روحك يا عايدة بسلام في أرجاء مدينتك ووطنك. قالها المتابعون للفيلم بقلوبهم. وفرحوا للحلم الذي تحقق.
المدى الزمني للشريط التسجيلي طويل نسبياً، ومع ذلك تمكنت كارول منصور من حصد التضامن والالتفاف، حول الحالة الإنسانية، التي ارادت تخليدها. حالة عاشها الملايين من اللاجئين الفلسطينيين، الذين أغمضوا عيونهم في الشتات ممنوعين من بلادهم.
«عايدة عائدة» فيلم تسجيلي لحكاية عائلية تشكل رافداً من ملايين الروافد التي تحتاج الذاكرة الفلسطينية لحفظها بشتى أشكال الفن والأدب والسينما والرواية والشعر والأغنية.

 زهرة مرعي