الرئيسية / home slide / قومية المسافات الطويلة: عن المهاجرين والأفكار وصناعة الزعامات اللبنانية

قومية المسافات الطويلة: عن المهاجرين والأفكار وصناعة الزعامات اللبنانية

 محمد تركي الربيعو
القدس العربي
20022021

في سياق الحديث عن اللاجئين، غالبا ما تركز الدراسات على التغيرات الثقافية والهوياتية التي يعيشها هؤلاء في بلدان اللجوء، وطرق حياتهم، وأسلوب اندماجهم في البلدان التي رحلوا لها. لكن الجديد في هذا الحقل، هو محاولة البعض دراسة الخبرات التي اكتسبها هؤلاء المهاجرون، ودورهم لاحقا في إعادة تشكيل بلدانهم الأصلية. وربما من الكتب المهمة والجديدة التي صدرت مؤخرا في هذا السياق، هو الكتاب الذي أشرف على إعداده الأنثروبولوجي اللبناني بول طبر (الجامعة الأمريكية في بيروت) ووهيب معلوف (باحث في قضايا الهجرة)، المركز العربي للأبحاث، اللذان حاولا من خلاله تقديم قراءة حول علاقة دول الشتات والمهاجرين اللبنانيين، بإعادة تشكيل المجال السياسي اللبناني، وبالأخص بُعيد الخمسينيات من القرن العشرين.
يلاحظ المؤلفان أن غالبية الكتب التي صدرت عن النخب السياسية اللبنانية، غالبا ما ركزت على البعد القومي الضيق والمحلي، لفهم أدوار هؤلاء الفاعلين، في حين يعتقدان أن العقود الأخيرة كشفت أكثر من السابق عن عناصر أخرى، أهمها الشتات، في تشكيل عالم السياسيين اللبنانيين، وهو عالم لم يقتصر بالضرورة على الوزراء، أو رؤساء الأحزاب، بل شمل أيضا طبقات جديدة من الفاعلين في السياسة، التي بحسب تعريفهما تضم مجموعات وشرائح أخذت تساهم في العمليات السياسية، أو تؤثر فيها من مختلف الخطوط الجانبية، مثل المستشارين والممولين.
كان بندكت أندرسن قد أشار في كتابه «الجماعات المتخيلة» إلى دور أفراد الشتات في تأسيس الدولة القومية، ولتمييز هذه المجموعة عن المجموعات الأخرى، سيطور لاحقا بعض علماء السياسة مصطلح «قومية المسافات الطويلة» في إشارة لدور المهاجرين في بلدان الشتات، في صياغة وتشكيل دول ما بعد الحرب العالمية الأولى، وانطلاقا من هذه الفكرة، سيعمل المؤلفان على رصد هذا الدور، من خلال استحضار مفهوم بيير بورديو حول «رأسمال المال الرمزي»، أو الثقافي، لأن تأثير المهاجرين، كما يعتقدان لا يقتصر فحسب على التحويلات المالية، بل يشمل أيضا تحويلات وأفكار ثقافية، كما أنهما لن يقفا عند حدود بورديو، بل سيهتمان كذلك بدور رأسمال المغتربين في نشوء وظهور لاعبين سياسيين جدد في لبنان، قبل وبعد اتفاق الطائف.
وصولا إلى نهاية الحرب العالمية الأولى في عام 1918، بلغ عدد الذين هاجروا من جبل لبنان ما يقارب ثلث السكان، متوجهين في الأساس إلى الولايات المتحدة وأمريكا اللاتينية والمكسيك، وقد تباطأت نسبة المهاجرين في المرحلة الفاصلة بين الحربين العالميتين، ليشهد لبنان موجة ثانية من الهجرة مع توجه أعداد منهم إلى أستراليا ونيوزيلندا وفرنسا، وبلدان غرب افريقيا، ومع بداية الخمسينيات شملت الهجرة اللبنانية بلدان الخليج، لتستمر هذه الموجات مع قدوم الحرب الأهلية في لبنان. ويرى المؤلفان أن مجتمعات الشتات (الدياسبورا) اللبنانية في فترة القرن العشرين، قد لعبت دورين أساسيين: الأول تأليف سرديات تاريخية وأدبية، عبر إرسال التحويلات الثقافية الأدبية إلى البلد الأم، الذي كان في طور التشكل، إذ قام المثقفون بتخيل وتعريف المجتمعات الوطنية السورية واللبنانية في صحف المهجر، وقد ألف بعض المثقفين اللبنانيين سرديات تاريخية عن الأصل الفينيقي للبنان، عكست اتجاها كان يلقى رواجا متناميا في حقل الكتابة التاريخية، ففي عام 1918 نشر أوغست أديب مساهمة في إرساء السردية الوطنية اللبنانية بتأليف كتاب «لبنان بعد الحرب»* الذي صدر بالفرنسية في باريس ، وكان أديب قد هاجر إلى مصر، وعمل في إدارة مالية تابعة للدولة المصرية، ويشير في كتابه هذا بوضوح إلى كون اللبنانيين هم من نسل الفينيقيين، وقدم سياقا تاريخيا لدولة لبنان الكبير، ويبدو أن أفكاره كانت نتاج إقامته في مصر، حيث تأثر بالحركة القومية المصرية التي طالبت أيضا بنسخة انفصالية فرعوية للهوية القومية المصرية.

في فترة السبعينيات ومع الفورة النفطية، ظهرت البورجوزاية اللبنانية المقاولة، وهم مجموعة من المهاجرين اللبنانيين، أثروا كمقاولين في الخليج في السبعينيات، ومن أبرز الأمثلة رفيق الحريري وعصام فارس ونجيب ميقاتي ومحمد الصفدي.

كما نعثر في سياق التأثير المبكر لأفكار الشتات في كتابات مهاجر لبناني آخر هو جبران خليل جبران، ففي أعماله الأدبية الأولى باللغة العربية التي كانت تلقى رواجا متزايدا في لبنان وسوريا في ظل الحكم العثماني، استخدم جبران بشكل متكرر البعد الفينيقي في رواياته غالبا، إلى جانب الحضارات القديمة والديانات الأخرى. وعلى القدر نفسه من الأهمية، كان مهاجرون سوريون ولبنانيون منذ عام 1916 في أمريكا الشمالية والجنوبية، قد بدأوا بالانخراط في ممارسات سياسية تهدف إلى تحقيق التحرر الوطني السوري واللبناني تحت رعاية الدعم السياسي الغربي والأمريكي غالبا. تضمنت هذه الممارسات تجنيد نحو 10 آلاف مهاجر سوري في جيوش الحلفاء، ولاسيما في الجيش الأمريكي، وبدأت التعبئة العسكرية المؤيدة للحلفاء في مجتمعات الشتات السورية، مع تشكيل قوة بقيادة فرنسية، سميت الفرقة الشرقية. تألف هذا الفوج إلى حد كبير من الأرمن، كما ضم في صفوفه 550 مهاجرا سوريا ولبنانيا، وجرى تجنيد المهاجرين في الفرقة الشرقية بين عامي 1916/1917، مع ذلك فإن التصور بأن الفرقة الشرقية، كانت مشروعا سوريا يخدم المصالح الاستعمارية الفرنسية، دفع المترددين من ذوي الميول الوطنية اللبنانية والعربية إلى الموافقة على التجنيد في الجيش الأمريكي كبديل، واتخذ المهاجرون ذوو الميول القومية السورية والعربية في نيويورك الموقف ذاته، في محاولة لبناء شراكة مع أمريكا الويلسونية المؤمنة بحق الشعوب في الاستقلال، وقد قاد رؤساء التحرير مثل نعوم مكرزل «الهدى» شكري بخاش «الفتاة»، إبراهيم الخوري ووديع شاكر «فتاة بوسطن» حملات الدعوة لتجنيد السوريين في الجيش الأمريكي في عام 1917

بعد الحرب، يلاحظ أن دور هذه النخب قد استمر مثل يوسف السودا، الذي عاد إلى لبنان من الإسكندرية في عام 1922، وانتخب نائبا عن جبل لبنان في دورة 1925، كما عاد ميشال شيحا، الذي انتخب نائبا عن بيروت في المجلس التمثيلي الثاني في عام 1925. وكان عضوا في اللجنة المالية، وقد لعب دورا كبيرا في صياغة الدستور اللبناني، وبالأخص المواد المتعلقة بخصوص الطوائف والتمثيل الطائفي، كما أسس أنطوان سعادة، العائد من البرازيل الحزب السوري القومي الاجتماعي في عام 1932 وبعدها بأربع سنوات أسس بيار الجميل العائد من مصر في عام 1919 حزب الكتائب اللبنانية، الذي يؤكد خصوصية الكيان اللبناني، ويدعو إلى قومية لبنانية متمايزة عن العرب، كما عرفت الثلاثينيات دور المال الاغترابي الشيعي في تأسيس بعض التشكيلات الشيعية، عبر رشيد بيضون الذي قام برحلات إلى غرب افريقيا في عام 1938 لجمع الأموال لبناء مدرسة ثانوية في بيروت عام 1942.

الاغتراب والزعماء السنة الجدد

ومع الخمسينيات كانت الثروة الاغترابية تساهم في تشكيل النخبة السياسية اللبنانية السنية عبر حسين العويني، الذي عين نائبا عن بيروت في الانتخابات النيابية في عام 1947، وقد ولد العويني في عائلة سنية من الطبقة الوسطى وفي منتصف العشرينيات التقى بعبد العزيز بن سعود، وأصبح مقربا منه، وسرعان ما غدا جزءا من مجموعة التجار والمستشاريين اللبنانيين والسوريين العاملين لدى آل سعود، ما مكنه من تكوين ثروة، ليتمكن لاحقا بحكم هذه القوة الاغترابية الكبيرة من اختراق الغلبة المسيحية، ليصبح المسلم الوحيد في الدائرة الضيقة حول الرئيس بشارة الخوري ثم عين وزيرا للخارجية في عام 1951 ورئيسا للوزراء في عام 1950/1951. وفي فترة الرئيس كميل شمعون، أفسح المجال لرجال أعمال مثل توفيق عساف فنزويلا، ونجيب صالحة السعودية، أن يتحولوا إلى مصرفيين، ولاحقا لاعبين سياسيين، كما عرفت هذه المرحلة تحالفاً بين بعض الفئات الاغترابية الجنوبية، والزعامات السياسية التقليدية مثل عائلة الزين في منطقتي الزهراني والنبطية، وعائلة الأسعد في مرجعيون وبنت جبيل، اذ بدأت هذه الزعامات تبحث عن حلفاء لها في أوساط البورجوازية الجنوبية الناشئة، وهو ما تمثل في ترشيح المهاجرين العائدين الأثرياء على اللوائح الانتخابية، ومثال على ذلك اللائحة الانتخابية في الجنوب اللبناني 1951، التي ضمت المهاجر سليمان عرب في نيجيريا، لكن التطور الأوسع على مستوى الحقل الشيعي جاء مع وصول وافد جديد إلى المشهد السياسي اللبناني وهو مهاجر عائد (موسى الصدر) الذي قدم حاملا مشروعا للجماعية الشيعية، وقد استطاع بخطابه أن يحصل على دعم من المهاجرين الشيعة، الذين لم يكونوا مرتاحين لخطاب الزعامات السياسية التقليدية.

مقاولون وسياسيون

في فترة السبعينيات ومع الفورة النفطية، ظهرت البورجوزاية اللبنانية المقاولة، وهم مجموعة من المهاجرين اللبنانيين، أثروا كمقاولين في الخليج في السبعينيات، ومن أبرز الأمثلة رفيق الحريري وعصام فارس ونجيب ميقاتي ومحمد الصفدي، كما سيشمل التأثير الطبقات السفلى من السياسيين والإداريين مثل محمد مظلوم، ابن بلدة الخيارة في البقاع، الذي هاجر إلى فنزويلا عام 1990 وعمل في تجارة الملابس، وخلال هذه الفترة بقي على تواصل مع قريته، واستمر في تقديم الدعم لعدة أنشطة، وعاد في عام 2016 لينتخب رئيسا لبلدية الخيارة، وهو ما يدعم فكرة أن الحصول على رأس المال الاجتماعي والاقتصادي في الشتات، سهل عليه العودة، والحصول على موقع سياسي، وهو ما نراه أيضا في حالة نعمة طعمة مواليد 1939 الذي عمل في السعودية خلال الستينيات، قبل أن يتحول الى أحد كبار تجار العقارات والفنادق والغذاء، ورغم أنه لا يتحدر من عائلة سياسية، فإنه مع ذلك تقدم للانتخابات في قضاء الشوف، وهي دائرة انتخابية يهمين عليها الزعيم الدرزي وليد جنبلاط، ومن هنا اعتمد طعمة (المسيحي الكاثوليكي) على رأس ماله الاقتصادي الاغترابي من أجل حجز مقعد نيابي، مقابل تقديم الدعم المادي الكبير للحملات الانتخابية، اللافت أيضا أن بعض رؤساء البلدية، جرى انتخابهم بناء على علاقات تربطهم برجال أعمال في الخارج.
وفي الكتاب أيضا، قراءة لدور رأس المال الثقافي للمغتربين، في دخولهم العملية السياسية مثل طارق متري، وهناك عشرات السير لمغتربين عادوا وشاركوا في العملية السياسية بأشكال مختلفة، معتمدين بالدرجة الأولى على أدواتهم التي اكتسبوها في الشتات. الجميل في هذا الكتاب، أنه لا يتيح الفرصة لفهم جديد للحقل السياسي اللبناني، من خلال دراسة عامل الشتات وآثاره، بل يشكل فرصة ومدخلا مهما لتطبيق هذه المقاربة على بلدان عربية عديدة، سواء في العراق بعد عام 2003 أو على صعيد دول مثل سوريا واليمن بعيد الربيع العربي، التي أتاحت الفرصة لعدد من المهجرين للمشاركة في النقاش السياسي، أو على مستوى تشكيل جماعات وأفكار أخرى في يوميات الشتات الجديدة، وكيف أثرت وستؤثر، في سردياتهم حول بلدانهم المغلوب على أمرها.

كاتب سوري